السبت، 16-05-2020
10:41 م
د. عادل عامر
أن التماسك الاجتماعي راجع في جزئه الأكبر إلى ما لدى المجتمع من ضرورة الدفاع عن نفسه ضد الآخرين. وإننا في مبدأ الأمر حين تحب الناس الذين نعيش معهم فإنما يكون ذلك ضد كل الناس الآخرين وهذه هي الغريزة البدائية
وهي ما زالت موجودة كامنة تحت ما جاءت به المدينة. وإننا حتى اليوم نحب والدينا ومواطنينا بصفة طبيعية ومباشرة بينما حب الإنسانية إنما هو مكتسب وغير مباشر عن طريق الله وفي الله يحض الدين الإنسان على حب الجنس البشير
وعن طريق العقل وفي العقل الذي نشترك فيه جميعا يجعلنا الفلاسفة نتطلع إلى الإنسانية لتربنا المكانة الكبرى للشخص الإنساني هي حق الجميع في الاحترام ولسنا في هذه الحالة ولا تلك نصل إلى الإنسانية على درجات عن طريق الأسرة والأمة.
يجب أن ننتقل بقفزة إلى أبعد منها ونبلغ إليها دون أن نتخذها كغاية وذلك بتعديها. أما الأخلاق الكامنة أو الأخلاقية التامة المطلقة فإنها لا تنسجم إلا في أناس استثنائيين انبعثوا على مدى الأزمنة وعرفتهم الإنسانية في حكماء اليونان وأنبياء إسرائيل وراهنات البوذية وقديسي المسيحية ومتصوفة الإسلام وغيرهم، ويجب أن تجسد هذه الخلاق في شخصية ممتازة تصبح مثلا يحتذي.
لعادة قوة ذاتية، وسلطان غريب على الإنسان؛ فهي تفرض نفسها بشدة يصعُب التحكُّم فيها حتى تجعله كالمنوَّم مغناطيسيًّا، إلا إذا عوَّد نفسه على غيرها؛ أي: لا يقهر العادةَ إلا عادةٌ أخرى.
سلطان العادات والتقاليد وما ألفناه ودرج عليه الناس وشاب عليه الشيخ والعجوز من القوانين والمسلمات الاجتماعية التي لا يمكن تجاوزها أو باختراقها إلا بوضع البرامج والأنشطة والتثقيف وفرض العلم على الناس فرضا يعاقب ويجرم عليه الدستور والقانون والنظام، ورعاية كل ذلك من الدول والمنظمات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني.
علينا أن نلتفت يمينا وشمالا وشرقا وغربا للبشرية التي تجاوزت هذه المرحلة بمراحل والتي ما زلنا نخوض فيها ونقاتل في ميادينها. وفي مربعها الأول.
مازال سلطان العادة والتقليد وما ورثناه من الأجداد له أكبر الأثر على الصورة النمطية للرجل والمرأة على حد سواء والثقافة التي تقدس التصور الماضوي وإن كان خطاً بيناً على الأفراد والمجتمعات أن يراجعوا هذه التصورات عبر الأجيال والتأريخ وأن يستفيدوا من التجارب الأممية البشرية التي وزعها البارئ على الأرض حتى يستفيدوا ويفيدوا.
إن صورة المرأة في أقصى شرق الأرض هي نفس الصورة في أقصى غربه وشمال شماله كجنوب جنوبه.. تصور نمطي ساذج مبني على الترهات والأساطير والأوهام الماضية فالمرأة إما سلعة بينة أو لا إنسانة مطلقا والصور المرسومة عبر الحضارات والمدنيات في الصين والهند والفرس والعرب والعجم والترك والبربر والقارات الخمس القديمة كانت مؤلمة ومبكية ومأساوية.
بعض الناس تحكمهم عادات سيئة، وبعضهم حسنة، وذلك راجع إلى عدة عوامل؛ منها: المحيط، والطبع، وأمور وراثية، لكن الغريب أن بعض الناس تتحكم فيهم عاداتٌ غريبة ليس لها علاقة بالسوء ولا بالحسن، عادات تثير الاهتمام وجديرة بالدراسة، ولعلي أكون قريبًا من التحليل الصحيح إذا قلت: إنها راجعة إلى أمور نفسيَّة بالدرجة الأولى.
فالأمر المطلق إذن ذو طبيعة غريزية والنشاط العاقل يتجه نحو تقليد الغريزة ونسميه العادة. وأقوى العادات هي تلك التي تتفوق في حسن تقليد الغريزة.
فالنموذج الطبيعي للمجتمع هو النموذج الغريزي والصلة التي تربط نحلات الخلية فيما بينها كثيرة الشبه بالصلة التي تربط خلايا الكائن الحي بما هي متحدة ومتماسكة ومتساندة تخضع إحداها للأخرى
وإذا أردنا تصور إن الطبيعة قد أرادت الحصول على مجتمع فيه فسحة للاختيار الفردي فإنها إذ ذاك تجعل العقل يحصل على نتائج تضاهي في انتظامها نتائج الغريزة في حدتها وانتظامها وهذا هو ما سميناه الإلزام الكلي.
فالعقل والغريزة كلاهما صورة للشعور وكان لابد أن يتداخلا في الحالة الأولى للخلية ثم ينفصلا فيما بعد على خطين رئيسيين –الخط الأول غريزة الحشرات والخط الثاني يقوم على طرفة العقل الإنساني. المثل العلى لفعل الغريزة نراه في خلايا النحل ومساكن النحل أما فعل العقل فنجده خالصا في المجتمعات الإنسانية.
والفرد في الحالة الأولى ملصق لوظيفته بحكم تكوينه نفسه وبحكم تنظيم ثابت نسبيا. بينما المدينة الإنسانية ذات صورة متغيرة ومفتوحة لكل أنواع التقدم. والإلزام الكلي كان يمكن أن يكون من الغريزة لو أن المجتمعات الإنسانية لم تكن في شكل ما مكللة بالتنوع وبالعقل والمجتمع الحديث أيضا إنما هو مجتمع مغلق شأنه شأن مجتمع الحشرات والمجتمع الإنساني البدائي. ولا عبرة بما تتطاير به الأقوال والفلسفات من حديث عن الإنسانية جمعاء وعن واجبنا نحو الإنسان بما هو إنسان.
فالواقع أننا حين نقول أن واجب احترام حياة وملكية الآخرين حاجة أساسية للحياة الاجتماعية لا نتكلم عن مجتمع يضم الإنسانية كلها وإلا جابهنا ما يقع زمن الحرب من قتل وتدمير وغش وخداع وكذب واحتيال مما يصبح موضع المدح والتقدير.
بل عن الحرب أمر عادي طبيعي كالمرض تماما. وما الصحة إلا جهد مستمر لتوقي المرض أو إبعاده وكذلك السلام هو استعداد للهجوم والدفاع بل استعداد للحرب ومن ثم فإن الغريزة الاجتماعية التي ألمعنا إليها في صميم الإلزام الخلقي تهدف دائما إلى مجتمع مغلق مهما كان متسعا ولا يمكن أن تستهدف الإنسانية كلها لأن بين الأمة مهما كبرت وبين الإنسانية مسافة كبيرة كالتي بين التناهي واللامتناهي وبين المغلق والمفتوح.
من الناس من يظل يحرِّك يده دون شعور ودون توقف على هيئة ما، ومنهم من يعَضُّ شفتيه، ومنهم من يقلب عينيه، ومنهم من يَرْكلُ برجليه الهواء، ذلك كله في حركة روتينية مثيرة.
لكن الغريب الذي أردت التحدث عنه أن بعضهم يستحدث عادة يصل مداها إلى من أمامه، وربما قادته إلى مشاكل كثيرة، ولكنه لا يدعها أبدًا، والسبب: إما أن سلطانها أكبر من أن يُقاوَم، أو أنَّ اعتقاده حسنها هو من جعله يلزمها، وفي كلٍّ شر، وهو أسوأ من الذي تتحكم فيه عادة لازمة غير متعدية.
من طريف العادات المتعدية، ومن الأدلة الواضحة على تحكمها حتى في اللاشعور: أني رأيت شخصًا يقرص جليسه من خده كل فترة زمنية مقدرة في حركة آلية لا شعورية، وكثيرًا ما علَّق الناس عليها بعبارات محرجة، وكثيرًا ما لاموه وأنبوه، وكثيرًا ما خاصموه، لكنه ظل يسبح ضد نصائحهم مستسلمًا لتنويمها.
ولقد حدَّثني مَن شهده مرة وقد سقط في حفرة فأغمي عليه، فلما أُخذ إلى المستشفى وعولج، بقي مغمًى عليه، وبقي من كان معه حوله ينتظرون استفاقته، فلبث غير بعيد ثم فتح عينيه المثقلتين، فأبصر أشباح من كان حوله، فمد يده مباشرة إلى أقربهم وقرصه من خده، ثم أغمض عينيه وأكمل نومته.
وأقبح منه شخص إذا قابلك مد يده قبل التحية نحو وجهك ثم قبضها، يريد بذلك أن يثير الفزع في قلبك مازحًا، لكنه كثيرًا ما يخطئ تقدير مكان وجهك؛ فيخدش خدك، أو يهشم أنفك، أو يسيل دم شفتيك!
في كل مرة يلام ويؤنَّب، وفي كل مرة يجد نفسه محرَجًا جدًّا، وفي كل مرة يجري خلفك متوسلاً أن تسامحه؛ لأنه لم يرد إلا ممازحتك، لكنه لا يفكر أبدًا في ترك هذا الطبع الغريب والقبيح، فتجده بعد يومين من الحادثة يعاود بحذر، ثم يهوِّن الوقتُ عليه خطأَه الأول، فيعود كما كان، يمد يده إلى وجهك ثم يقبضها، حتى إذا فقأ عينك جاء يعتذر، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إيَّاك وكلَّ ما يعتذر منه)).