الثلاثاء 24 ديسمبر 2024
توقيت مصر 07:47 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

المطلب الصعب.. الشيخ الشعراوي و(هذا الذى)

على الرغم من كون الإسلام(كدين)يتميز بحضوره الواسع في حياة المسلمين ودنياهم وأمورهم الشخصية والاجتماعية والتشريعية.. إلخ.. إلا أن أقوى وأعظم حضور له يكاد يكون في(القلب) سنعلم ذلك نصا واضحا من القرآن الكريم في الحديث الفصل عن (القلب السليم) وأيضا فى وصف الحقيقة التي انتهت بها رحلة الحيرة والسؤال مع سيدنا إبراهيم عليه السلام  حين أتى ربه بقلب سليم .. وأيضا تأكيدات النص القرآنى على أهمية النظر العميق لجوهر الأشياء لا مظهرها كما في الآية الكريمة بسورة الحج (.. ولكن يناله التقوى منكم) ..سنرى أيضا من سنة الرسول الكريم وسيرته ما يؤكد هذا المعنى تأكيدا عمليا راسخا ومتكررا في مواقف عديدة ..وتأكيده صلى الله علي وسلم ثلاثا على أن التقوى في القلب..(إنما التقوى هاهنا) وأشار إلى صدره .

وستأخذك الدهشة وتبتسم حين نتذكر أن أول حديثين بترتيبهما في صحيح البخاري كان الأول حديث إنما الأعمال بالنيات والثاني حديث جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.. وفيه معنى(الإحسان).. الأكثر إدهاشا أن الذى رواهما عن الرسول الكريم كان الفاروق(عمر)الذى كان لا يكف عن التذكير بالليل والنهار بجوهر الأشياء وعمقها العميق في الروح والقلب مستنكرا المظهرة والادعاء.. سنراه مثلا يدخل المسجد فيرى شابا يصلى ويطأطأ رقبته فيقول له فورا: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب.. سنراه وهو يسأل أحدا مرة عن موضوع فيرد عليه(الله أعلم..) فوكزه في كتفه قائلا (خسئنا إن لم نكن نعلم أن الله أعلم).                           الرجل يريد جوابا يا تعرف .. يا متعرفش و خلصت.. ما لزوم التنطع والشقشقة والإدعاءات المظهرية.                                             

المهم أن(عمر) رضى الله عنه كان أول من يعلم أن تغيير تفكير وسلوك بهذا الشكل لن يكون من خلال إشارة في المسجد لصاحب الرقبة ولا لصاحب الوكزة..لكن الرجل كان يعلم دوره في حياة أمته فكان يصر على أن يضع الأمور في موضعها الصحيح الأن وحالا.. ولم يتغافل مثلا و(يفوًت) وطبعا لأنه عمر.. وليس كل الناس عمر.. وما أصدق ما قالته فيه أمنا الكريمة الصِدٍيقًة بنت الصِدًيق السيدة عائشة: كان عمر الناسك حقا.. تعليقا منها على مشهد غريب استنكرته لبعض الشباب فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نٌساك!

الجميل الرقيق الصدوق الفضيل بن عياض(627-803م) كان (يكره أن يٌظهر الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه) .. فى طريقة كلامه .. مشيته ..ملابسه ..مظهره الاجتماعي العام.. وستتكون أمامنا في الحال معادلة عادلة عن زيادة هنا ونقصان هناك .. وسيتسع المعنى المٌشار إليه في الصدقات (.. وإن تخفوها) إلى كل شيء تقريبا يأخذنا إلى طريق الخشوع والحب والعبودية والإخلاص والطهر والصدق لرب العالمين .. وصدق من قال: دواؤك فيك وما تُبصر** وداؤك منك وما تشعر.

******

من يومين (17يونيو) مرت علينا ذكرى وفاة الشيخ محمد متولى الشعراوي(1911-1989م) رحمه الله ..23   عاما مرت على وفاته .. جاء وعبر وترك أعمق الأثر وهكذا هو الصدق وهكذا هو الإخلاص .. ويصح أن نقول هنا ما كان لله دام واتصل .. وما كان لغيره انقطع وانفصل ..إذا قلنا أن الرجل كان عالما لغويا من الطراز الرفيع وإذا قلنا أن الرجل كان أو كاد يكون فقيها من رائحة العظماء الأقدمين.. وإذا قلنا أن الرجل كان محدثا من أهل الحديث المتبصرين..إذا قلنا ذلك وأكثر من كل ذلك فما أشرنا إلى أخص وأهم وأعم صفاته التي يمكننا وصفه بها.

إذا ذكرت الشيخ الشعراوى أذكر إلى جواره فورا كلمة واحدة فقط (الإخلاص)..ذاك الـ (صعب المنال الذى لا يٌدرك إلا بطول الطلب) كما يقولون .. ومن طلب شيئا أدركه وإن لم يدركه أوشك أن يصل إلى جواره.           فى الأصل سنجد أن رحلة الحياة طالت أم قصرت ما هي إلا (رحلة الطلب الصعب)..وصعوبته تكمن فى أن الإنسان في رحلته هذه يعمل ضد خصائصه وصفاته التي جاء بها أصلا إلى الدنيا(الظلم والجهل والبخل والهلع والمنع والكبر والغل والخسران ..) ويكفى أن أصعب هذه الخصائص(الغل) لن يتخلص منه تماما الإنسان إلا في الجنة .

الحاصل أن أهم ظاهرة إسلامية في العصر الحديث (كما وصف د/يوسف إدريس الشيخ الشعراوي) تملكت على المصريين قلوبهم وعقولهم وأصبح الرجل جزءَ أصيلا من حياتهم باستحقاق تام وجدارة كاملة مما جعل د/حسين مؤنس يسأله: ما كل هذا العلم وما كل هذا البيان؟ فيقول له الشيخ الجليل بتواضعه المشهور: فضل جود لا بذل مجهود يا د. مؤنس .. الرجل بمنتهى التسليم لرب العالمين يعلم يقينا أن كل ما كان منه لم يكن إلا جود وعطاء ومِنَة من الله لاقت قلبا سليما فألتقاها .. فكانت ظاهرة الشيخ الشعراوى التي ذكَرت وألهمت المصريين بالكثير والكثير من إشراقات دينهم العظيم روحا وفكرا وسلوكا.

*****

لم يحب المصريون (شخصية عامة) مثلما أحبوا الشيخ الشعراوي ولم يجمع المصريون على(عالم دين)مثلما أجمعوا على الشيخ الشعراوي ولم يٌقبل المصريون على(درس ديني)مثلما أقبلوا على دروس الشيخ الشعراوي جاء الرجل وجاءت معه أفكاره فى وقت من أكثر أوقات المصريين ظلاما وإحباطا (1967 -1973م) ..أكاذيب الخمسينيات والستينيات التى استفاق الناس منها على الإسرائيليين وهم يهددون ثلاث عواصم عربية(القاهرة ودمشق وعمان) والأسوأ احتلال القدس و المسجد الأقصى.. الحاصل أن ألام الناس كانت قاسية وأحزانهم كانت عميقة وإذا بهم يجدون أنفسهم فجأة فى الطرف الأخر للحياة.                                                           كان المصريون _وكما هم دائما _ فطرتهم فى بوصلتهم وبوصلتهم فى فطرتهم فاتجهوا إلى قبلتهم .. وملأوا المساجد والزوايا وتعالت بينهم نداءات (الله أكبر.. الله أكبر) حتى أن الزعيم الخالد ولأول مرة يحضر الاحتفال بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجد الحسين مع زكريا محى الدين وحسين الشافعي والسادات يوم 19/6/1967.

*****

يقولون أن هناك مفكرون وعلماء يعيشون أفكارهم ومبادئهم فتتوهج أفكارهم بين الناس من قوة صدقهم ونشاطهم وحركتهم ..وهناك مفكرون مثل الماكينات والأليات ينتجون أفكارا.. و يا بُعد ما بينهم وبين أفكارهم ومبادئهم .. لكن الرجل لم يكن يعيش أفكاره فقط ..بل لقد كان من قوة وصدق إيمانه بأفكاره وإخلاصه في حملها كأنه هو الفكرة ..والفكرة هو.. فوجده المصريون ووجدهم.. وكانت لحظة التقاء وعناق نادرة وفريدة وعظيمة بين فكرة ورمزها.. وجماهير وإيمانها. وقد كان .. فنفذ الرجل إلى قلوب وعقول المصريين وفتح نوافذ وعيهم ووجدانهم على كتاب الله (القرآن الكريم) القوة المركزية الراسخة في دائرة الإسلام عقيدة وإيمانا وفهما وفكرا وسلوكا وثقافة وحياة ..ففتح له المصريون كل عقولهم وكل قلوبهم وكل وعيهم ,,ثقة منهم فى صدقه وعلمه وذاك النور الذى يشع من كلماته.. نور أضاء المدينة كلها ..ليست مدينة الشوارع والبيوت.. بل مدينة الوعي والفهم والحب والعمل الصالح.

والجماهير الغفيرة والعامة من الناس هم المستوى الحقيقي للتعبير عن الإسلام العظيم فى واقع الأمة..الرجل كان يحدثهم حديثا سهلا عن الإيمان والحياة والوجود والمصير.. فأضاء لهم فجرا جديدا فى تجربة فريدة من تجارب الدعوة والدعاة.. فتلقفت فطرتهم حديثه البسيط العميق الذى نزل على قلوبهم بردا وسلاما وهم يقولون معه المقولة الأولى التي تسرى فى كيان كل أبناء أدم عليه السلام حين سألهم الملك الخلاق العليم كما جاء فى سورة الأعراف(..ألست بربكم..قالوا بلى).

*****

كثير من المفكرين والدعاة نظروا لتجربة الرجل فى التواصل مع الجماهير نظرة بها بعض الإعجاب والكثير من الغيرة .. وإذا كانت النفوس صغارا**عَلقت بالصغائر الآمال .. وآه من صغار النفوس وآه من صغائرهم.                  فحين رحل الشيخ الجليل تصور كثيرون من نوعية (هذا الذى) أنهم سيملؤون فراغا وما كان هناك فراغا إلا في نفوسهم الصغيرة التي تعلقت بأمل موهوم في أن يكون لهم عند الناس ما كان للرجل..و يا بٌعد المطلب و يا بٌعد الوسيلة .. لم يذوقوا ولم يفهموا السر .. وما أدركوا الحقائق وما كانوا من الفهماء ..فما كان منهم إلا صخب هنا وضجيج هناك وسرعان ما خفت الصخب واختفى الضجيج وما تركوا وراءهم إلا تندرا وضحكا وحسرات خاسرات.

وفى الليلة الظلماء يٌفتقد البدر .. هل نقول نفتقدك يا (إمام الدعاة) وأنت بيننا تملأ الدنيا وتشغل الناس بالحقائق الكبرى والخيرات.

تويتر @elhamamy

أخبار متعلقة