الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
توقيت مصر 07:25 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

من كُنَّاشة عبد السلام هارون

أما عبد السلام هارون (1326 – 1408هـ) ( 1909-1988م) ،فهو العلامة الأديب اللغوي عبد السلام بن محمد هارون صاحب الدراسات المتميزة ،والكتب النافعة التي بلغت نحواً من مائة وعشرين كتاباً في مجالات اللغة والأدب وغير ذلك ، والذي يعد واحدا ًمن رواد تحقيق التراث العربي في القرن الماضي ،حيث قام بتحقيق عدد كبير من أمهات كتب التراث ككتاب الحيوان للجاحظ ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ أيضاً ، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، والمفضَّليات للمفضَّل الضبي بالاشتراك مع ابن عمته الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله ، كما اشتركا معاً في تحقيق كتب أخرى منها الأصمعيات ، ومنها إصلاح المنطق لابن السِّكِّيت . ولعبد السلام هارون كذلك : تهذيب سيرة ابن هشام، وتهذيب إحياء علوم الدين للغزالي، والألف المختارة من صحيح البخاري. ،وغير ذلك من المؤلفات .
وأما معنى الكُنَّاشَة بضم الكاف وتشديد النون ،فهي كما في القاموس : الأصل تتشعّب منه الفروع، وقد عقب الزبيدي في تاج العروس على ذلك بقوله : ( ومنه الكُنَّاشة : الأوراق تجعل كالدفتر يُقيَّد فيها الفوائد والشوارد للضبط ) .
وأما "كُنَّاشة عبد السلام هارون" فهو كتاب أصدره بعنوان : ( كُنَّاشة النوادر ) ، وقد أخذ اسمه من المعنى الذي أشار إليه صاحب تاج العروس ، حيث أودع فيه جانباً مما كان قد دونَّه من خلال دراسته لكتب التراث العربي مما رآه نادراً وغريباً من حقائق وأفكار ،وأقوال وتعبيرات شاردة . وكان قد اعتاد أن يقدم في كل عام مجموعة من تلك النوادر إلى المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة - الذي كان عضواً به- وذلك بدءاً من سنة 1979م إلى سنة 1988م . فطَبع قسماً منها قبل وفاته ،ثم أضيفت مجموعات أخرى في الطبعة التي صدرت بعد وفاته رحمه الله .
أما ما قصدت الإشارة إليه من هذا الكتاب ،فهو حروف يسيرة تتضمن بعض الفوائد النادرة التي وجدتها في هذا الكتاب الفريد :  
1-فمما استفدته من ذلك الكتاب بيان النطق الصحيح لاسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام ، وذلك أني كنت أظن أن الضبط الصحيح لهذا الاسم هو "سارَّة "بتشديد الراء ، حتى إني كنت أقترح على إخواننا ممن يعيشون في بلاد الغرب ،إذا سمَّوْا بناتهم بهذا الاسم ،أن تكون كتابته بالحروف اللاتينية متضمنة كتابة حرف (الآر ) مرتين فتكون كتابة الاسم هكذا : (SARRAH ) . ولكن كنَّاشة عبد السلام هارون قادتني إلي اكتشاف خطأ ذلك الظن ، وأن الضبط الصحيح لاسم سارة رضي الله عنها هو بتخفيف الراء وليس بتشديدها ، لأنه هكذا ضبط اسمها في صحيح البخاري . أقول : وقد راجعت اسم سارة في مواضع من الصحيحين ،منها البخاري ( 2217)، ( 3358)  ومسلم ( 2371) ، فوجدته بتخفيف الراء كما ذكر رحمه الله . كما ذكر الأستاذ هارون أن هناك من شواهد الشعر العربي القديم ما يدل على ذلك وهو قول جرير :
ويجمعنا والغرَّ أولاد سارَة *** أبٌ لا نبالي بعده مَن تعذرا
أبونا خليلُ الله والربُ ربُنا *** رضينا بما أعطى الإله وقدَّرا
كما أن اسمها موجود كذلك بالتخفيف في كتب أهل الكتاب ، ففي سفر التكوين ،الإصحاح السابع عشر ، أن الله قال لإبراهيم : ( ساراي امرأتك لا تدعوها ساراي ، بل اسمها سارَة ) ، وفي بعض شروحهم أن معنى هذا الاسم الجديد –أي سارة- هو الرئيسة .
ولكن الأستاذ هارون يذكر أن تسمية سارَّة بالتشديد هي أيضاً تسمية صحيحة ، إذا ما نظرنا إلى اشتقاقها العربي فهي اسم فاعل من قولهم : سرَّته تسرُّه فهي سارَّة ، فمن أراد تسميةً حديثة لا علاقة لها بالاسم التاريخي القديم فتسمية "سارَّة " بالتشديد تسمية صحيحة ، وأما من أراد أن يسمي ابنته بهذا الاسم تيمناً باسم زوج الخليل عليه السلام ،فإنه يكون من الخطا أن يشدد الراء بل ينطقها خفيفة كما هو ضبطها المنصوص عليه .
2-ومن طريف ما ذكره في هذا الكتاب الإشارة إلى شيءٍ شبيهٍ بما يقول به بعض أصحاب المدارس الصحافية المعاصرة من أنه : إذا عضَّ كلبٌ إنساناً ، فهذا ليس خبراً يستحق النشر ، أما إذا عض إنسانٌ كلباً، فهذا هو الخبر الذي يستحق النشر.
فإن الأستاذ هارون يذكر مثل ذلك القول في كنَّاشته ، ثم ينقل بمناسبة ذلك ما ذكره الآمدي في ترجمة مُلاعب الأسنة أوس بن مالك الجرمي الشاعر الفارس ، من أن لبُؤَةً عضت مَنكبه ، فعَضَّ هو بأنفها ،وقال:
أعَضُّ بأنفها وتعَضُّ أنفي *** كلانا باسلٌ بطلٌ شجاعُ
فلولا أن تداركني زهير ***  بنصل السيف أفْنتْني السباعُ
3- وتحت عنوان (الشاطر والمشطور) يستنكر صاحب الكناشة تلك الدعابة التي كان البعض يتندر بها ظلماً على مجمع اللغة العربية ،حيث كانوا يزعمون أن المجمع لما أراد أن يضع مصطلحاً يقابل كلمة "ساندويتش" فإنه ابتدع لذلك لقباً خاصاً هو : "شاطر ومشطور وبينهما طازج "، ويبين بمناسبة ذلك أن اللفظ العربي المقابل للساندوتش هو الشطيرة ،وهو موجود عند العرب من زمان بعيد .ويذكر في ذلك قصة ذكرها الطبري في حوادث سنة 170 عن عبد الله بن مالك والي الشرطة في أيام المهدي ،ومما جاء فيها قول عبد الله هذا : " فإني لجالسٌ وبين يديَّ بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأضعه للصبية .... " والكامخ هو ما يؤتدم به كما يذكر الأستاذ هارون ،فكأن هذا الرجل كان يصنع لبنيه من الرقاق شرائح يحشوها بالكامخ ،وهذا يعني أن الشطائر صنعها العرب قديما ،وليست أمراً مستحدثاً حتى يلصق بالمجمع أنه حار في تسميتها ، ولم يجد لها إلا تسمية : "شاطر ومشطور وبينهما طازج " على حد ما كانوا يتندرون به . 
4-وفي الكتاب مقتطفات تشير إلى سبق العرب والمسلمين إلى بعض العلوم والمعارف، ووجود أصول عربية لكثير مما هو موجود في حضارتنا المعاصرة . فمن ذلك ما نقله عن الفائق للزمخشري من أن علياً رضي الله عنه قاس عيناً ببيضة ، وشرْح ذلك أن العين قد تصاب بلطم أو غيره ،مما يضعف معه البصر ، فيتعرف مقدار ما نقص منها ببيضة يخط عليها خطوط ، وتنصب على مسافة تلحقها –أي تراها- العين الصحيحة ، ثم تنصب على مسافة دونها تلحقها العليلة ، ويتعرف ما بين المسافتين فيكون ما يلزم الجاني بحساب ذلك .
ومن ذلك ما ذكره عن وجود أصل عربي لطريقة برايل ( أي الكتابة بالحروف البارزة التي ابتدعت في العصر الحديث لمساعدة المكفوفين ) ، حيث نقل عن الصفدي في كتابه نكت الهميان ،في ترجمة علي بن أحمد الآمدي -وكان كفيفاً- أنه كان يعرف أثمان كتبه التي اقتناها ، وذلك أنه كان إذا اشترى كتاباً أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفاً أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الجُمَّل ، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل ، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأيد ، فإذا شذ عن ذهنه ثمن الكتاب مس الموضع الذي علَّمه في ذلك الكتاب بيده ، فيعرف ثمنه .
إلى غير ذلك من النوادر واللطائف التي تثري المعارف وتوسع المدارك ، وتحبب إلى قارئها لغة العرب وتراثها العظيم .