الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 04:52 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

غزة وعباس.. خسارة الضروري من أجل المشكوك فيه!

نعلم جميعا أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لاضطربت موازين الحياة على الأرض واختلت وفسدت كما تقول الآية الكريمة(251)في سورة البقرة والآية (40) في سورة الحج ,, وهذا المعنى مفتوح على كل وقت وكل مكان يتواجد فيه(الناس) سواء كان ذلك أثناء حركتهم البسيطة فى حياتهم اليومية التافهة بكل ما فيها من تداخل وتشابك وتفاصيل أكثر تفاهة .. مدفوعين فيما بينهم بنوازعهم الغريزية المهذبة عند البعض وغير المهذبة عند البعض الأخر.. أو كان ذلك على مستوى أخرمن الحركة أكثر تعقيدا وتركيبا,, والنماذج لا تعد وتحصى من أنواع وألوان ودرجات هذا التدافع في السياسة والاجتماع والاقتصاد وحتى الدين والأفكار, ناهيك طبعا عن علاقات الأمم والدول والشعوب , وما ستراه على المستوى الشخصي والفردي من مكونات ودوافع وسلوكيات ستجده على المستويات الأخرى كلها.. (نفس القطعية) كما يقولون .. الأنانية والأثرة والتسلط والسيطرة والزعامة والشهرة والمجد والفخر والانتقام والثأر والتشفي والشماتة والغل وأضعاف أضعاف كل ذلك من ذات المستنقع النفسي غير النظيف مما هو محزن ومشين .. لكنه حقيقي..                                                                                                     سنرى أن القرآن الكريم يحدثنا كثيرا عن التطهر والمتطهرين الذين يحبهم الله وتكرار اللفظ والمعنى في أكثر من موضع يشير بوضوح إلى ما يتجاوز الطهارة الظاهرية(الصابونة والليفة)والتي هي معروفة بالضرورة .. ممارسة (التطهرالنفسى) إذن خلق إيمانى عميق لا غنى عنه للتخلص الدائم والمستمر من هذا المحزن المشين في كل البشر في كل وقت وكل مكان.

*********

انتهت معركة سيف القدس والتي  يقينا وواقعا حققت تغيرا نوعيا هائلا في معادلة الصراع العربي /الإسرائيلي والتي كانت بالفعل كالرياح العاتية التي طهرت نهر هذا الصراع من الأوساخ والروائح النتنة التي ملأته في السنوات الأخيرة.. إلى الحد الذى قال فيه(جوزيب بوريل)مسؤل السياسة الأمنية والعلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي: لقد تصورنا أن الصراع انتهى ولم يعد هناك ما يعرف بالقضية الفلسطينية , وهو ما كاد أن  يكون صحيحا فقد بدا أن الجميع سعداء ساكنون مستكينون راضون تمام الرضا عن الشرق الأوسط الجديد الذى تتوسطه تلك الواحة الغناء التي لاتٌقهر(إسرائيل)..وعلى رأس كل هؤلاء السيد محمود عباس والسلطة في رام الله .

لكن المؤمنون الذين يعرفون أن ربك يخلق ما يشاء ويختار لم يستريحوا إلى هذا المشهد غير الطبيعى وقالوا لأنفسهم الحكمة الخالدة: إن شاء الله كل شيء سيتحقق لمن يعرف كيف يستعد وينتظر .. ولم يطل الانتظار في الحقيقة .. فقد أتى رمضان وأتت معه بركاته وتغير كل شيء ..هل نقول مع الجميل محمود درويش الوداع لما قد يأتي ولا يصل ..ها قد أتى ووصل أيها العندليب الأزرق.. وكان على الجميع أن يعد العدة لما أتى ووصل.. وعلى رأس هؤلاء السيد محمود عباس والسلطة في رام الله .

*********

وهنا نترك المفكر الكبير إدوارد سعيد يحكى لنا طرفا من قصة السلطة في رام الله حتى ندخل في الموضوع  وهو الكلام الذى ذكره في كتابه الشهير (غزة أريحا – سلام أمريكي) الذى صدر سنة 1995م قال : الشعب الفلسطيني الذي خدمت في صفوف حركته الوطنية وصولاً إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1977 وحتى استقالتي منه عام 1991 بسبب الشروط التي قبلتها القيادة الفلسطينية حتى يتسنى لها(الذهاب إلى مدريد) والتي كنت أرى أنها (ستؤدي بنا إلى كارثة) بعد أن أخذت أرى بوضوح ومنذ العام 1991 الأسلوب الذي يتم به(إهدار المكاسب التي حققتها الانتفاضة) بل وإصرار ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم حتى لا يفوتهم ركب عملية السلام فقد وجدت قيادة منظمة التحرير وفي خضم حالة الفوضى والذعر من المستقبل( وجدتها تفرط في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني) وقد جاء إعلان مبادئ أوسلو في سبتمبر 1993م بالمزيد من التنازلات عن القدس وقضية اللاجئين حيث أرجأت هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات المرحلة النهائية غير المحدودة الزمن واليوم تتكشف لنا الحقائق فنعرف أن الجانب الفلسطيني ذهب إلى أوسلو في مهمة تم بمقتضاها(تفكيك بنية المقاومة)الفلسطينية بأكملها..

أنتهى كلام د/ إدوارد سعيد ..وهو كلام تقفز الكلمات والعبارات فيه قفزا لتعبر من عالم ومرحلة وموت محتم .                                        ما بين الأقواس كلام خطير وخطورته ليس فقط فيمن قاله وهو كافى ,, ولكن في كونه حدث بالفعل.. بل وكان مرتبا له أن يستمر إلى ما لا نهاية.. أو حتى يصل الحال كله إلى الحالة التي وصل إليها جوزيب بوريل والباقون .

*******

لكن الأخطر والأخطر أن السلطة في رام الله والسيد عباس ومعاونوه لازالوا قائمين على هذا الإرث المرفوض من صفوة العقول الفلسطينية وها قد عرفناه من المسيحي النبيل بن العروبة والإسلام .. ذو الحس المرهف تجاه كل ما هو إسلامى وإنساني (ياريت تلقوا نظرة خاطفة على كتابه العظيم الاستشراق)..                                                                  والمفترض أنه خلال الفترة الجارية تتم مصالحة وتفاهم بين المقاومة والسلطة الوطنية لترتيب المستقبل القريب والبعيد .. وسائلا وأهدافا ..الحكمة القديمة تقول(لا تخسر ما هو ضروري من أجل شيء مشكوك في حصولك عليه) .. المصالحة وترتيب الحركة الوطنية الفلسطينية (ضروري) لا يمكن التضحية به وخسارته من أجل ما هو مشكوك في الحصول عليه .. بل أكاد أقول مؤكد عدم حصولك عليه ..إدوارد سعيد قال هذا الكلام من 27 سنة والأحداث والحوادث كلها أكدت صحته ..فهل السيد عباس والسلطة على استعداد لفهم ذلك ؟

الحقيقة والواقع يقولان أن الناس لا يقدرون إلا من يحتاجون إليه ..وحاجة إسرائيل والغرب للسيد عباس والسلطة ليس فيها أي تقدير إلا بالقدر الذى يٌمكًنهم من السيطرة والتحكم في حركة المقاومة وتفكيكها كما قال د/ إدوارد سعيد وهو للأسف ما تم الاتفاق عليه معهم من وقت الانتفاضة الأولى مرورا بمدريد وأوسلو..فهل هكذا تقدير يشرف أي إنسان في الدنيا؟.

*******

وعودة الى ما بدأنا به المقال ..التنقيب داخل النفس الإنسانية موضوع دينى وسياسى بامتياز..وهكذا هي الدنيا وهكذا هم البشر..وعليه فلا يستطيع بل ولا يرغب أحد من السيد عباس وزملاؤه الجلوس في منازلهم يتطلعون إلى جدرانها صامتين منتظرين المرض والموت.. لكن لا يمكن لهم الاستمرار في القيام بنفس الدور الذى قاموا به أولا بابتلاع الانتفاضة واحتواءها ومنع أي عمل مقاوم ضد المحتل .. حتى لو كان حجرا يلقيه طفل على دبابة.  ما بالك اليوم وقد كبر الطفل ,, وصار الحجر صاروخا وهاون!.

لا يمكن أبدا أن يكون ثانية ما كان أولا فقد تغير كل شيء ..فعلا تغير كل شيء .. حتى نظرة الغرب السياسى نفسه إلى إسرائيل كخفير لمصالحه تغيرت ولم تعد هناك ضرورة حماية لتلك المصالح أن تمر عبر إسرائيل .. ليس هذا فقط بل والغرب الشعبي نفسه تغير بعد أن كبر جيل الألفية وما يسمونه جيل( (yالذين ولدوا في الفترة ما بين 1981 و2000م .. ناهيك عن هذا الجيل نفسه داخل غزة والضفة ..بل وداخل إسرائيل نفسها حيث السأم العام والخوف المتزايد وحيث الشعور الطاغى بأن النهاية حتمية .. والسؤال فقط هو متى وكيف؟

*******

في بعض الأوقات يكون لمفهوم الحياة والناس أولوية على مفهوم الفكرة والحركة وعليه فسيكون هناك دورا كبيرا وهاما لابد لحركة المقاومة أن تفهمه وتقوم به: قليل من الصلابة والكثير الكثير من السياسة .. وقد رأينا الرسول الكريم أعطى أبو سفيان مكانة لم يكن يحلم بها وهو يضع صلى الله عليه وسلم اللمسات الأخيرة للدعوة والدولة ,. وكذلك فعل أبوبكر وعمر في أول الخلافة الراشدة مع أبو سفيان والبيت الأموي كله وكذلك مع العباس والبيت الهاشمي حتى تستقر السلطة الجديدة وترسخ ..المقاربات النفسية بل والعينية لها دور بالغ الأهمية في السياسة.. وصدق من قال : إذا تم الاتفاق والتراضي على المضمون فسينصاع الشكل فورا.. هكذا تقول تجارب الدنيا والناس .

ستحاول جهات كثيرة الطرق فوق رؤوس المقاومة بمطرقة السيد عباس والسلطة.. صحيح اللعبة أصبحت قديمة لكنها للأسف لازالت تحدث أثرا في التعويق وهو ما لا يريده أحد بعد هذه القفزة الهائلة للأمام .. الاتحاد الأوروبي أيضا بداخله تناقضات كثيرة وتوازنات دقيقة وقد رأينا تلك المقارنة بالغة الروعة التي سردتها الإندبندنت الشهر الماضى(باتريك كوبرن 16مايو) بين الشعب الأيرلندي وكفاحه السلمى والمسلح ضد بريطانيا وكفاح الشعب الفلسطيني أمام إسرائيل.

قد تكون(المداولة)مع السيد عباس والسلطة وجهات عديدة أخرى أصعب وأشق من(المقاومة)مع إسرائيل ..وفى كل خير .

تويتر@elhamamy