الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 09:33 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

ما عاش من عاش لنفسه.. بل وما استحق أن يولد

قد يكون هناك شىء من التحفظ على القول بمن يستحق ومن لا يستحق لأنه ما من شىء يحدث فى الكون كله إلا بإذن الله العلى الأعلى العليم الحكيم.. لكن اللغة قد تحمل أحيانا بعض التجاوز فى اللفظ للدلالة على مافى النفس من ضيق وألم.. وفد سمعنا السيدة مريم وهى تقول فى مخاضها (يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) وحاشى لله أن تكون بذلك معترضه على مشيئة الله فى أن تحمل بلا زواج وهى البتول العذراء .. وسمعنا الفاروق وهو يبكى خشوعا قائلا ياليت أم عمر لم تلد عمر, ياليتنى كنت جذع شجرة ..
وعلى ذلك سمعنا هذه المقولة الصاعقة (ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط) وصدقناها ورددناها عبر الاجي الخلف الزعيم مصطفى كامل ..والحقيقة أن هذه المقولة أقل ما يمكن أن تقال عن هكذا إنسان بل وياليت كان ما هو أقسى .. (ما بيحبش يشيل هم حد..)هكذا قالها أحدهم فى وصف أحد معارفه..وسمعنا أيضا من يقول فى فخر فخير(كل واحد يشيل شيلته..) مضيفا أنه لا يعطى أحد ولا يأخذ من أحد ..ومتصور بذلك أنه وصل الى المعادلة الذهبية التى غابت عن أولئك المجانين الذين يتعاطون بينهم بالحب والسخاء..
هناك بعض البشر يمتلكون قدرا من(الذكاء النطاسى)مما تنوء به أدمغتهم.. فتهب علينا منهم مثل هذه الرياح النفوحة..
يقولون أن الذى يعيش لنفسه فقط كأنه غير موجود أصلا بل ..وياليته لم يكن موجودا من الأساس فهو عبأ ثقيل رذيل على هذه الحياة ..إنسان قرر خلع كل ما يستر إنسانيته.. ويا لسوء سوء من يضطر إلى معايشة ومقاربة هذا(الكائن البيولوجى) . 

**** 

فى المفهوم الإسلامى سنجد أن صفة(الأنانية)من أشد الصفات سوءً وإنكاراً ومقتاً .. سمعنا ذلك فى الأية الكريمة  التى تصف أهل الإيمان بأعظم وأجمل وأنبل وصف (الإيثار) .. (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) أى إضطرار وحاجة.. فما بالك بمن كان ميسورا موسرا ..لنا أن نتخيل إذن أنه وفق مراد الأية سيكون سخاء وكرما يسيرعلى قدمين .. ومعلوم طبعا البعد البعيد بين الإيثار والأنانية..
الأخ الشقيق للأنانية هو ذاك الكريه المكروه (الشح)وليعاذ بالله .. وأبرز صورة له هو شح الإنفاق .. لكنه متعدد الصور والأشكال..فى العلم والمعرفة مثلا ..والشح به على المتعلم أو زملاء العمل والدراسة لمنع نموهم وتفوقهم ..فى الشعور والعاطفة والشح بها على الأخرين بدرجات قربهم منا وهى من الصورة الكريهة للشح وتساهم بدرجة كبيرة فى تقطيع الأرحام وتمزيق البيوت ..وهكذا .. كثيرة هى فى الحقيقة صور الشح ..
**** 

ويبدو لنا من الأية الكريمة  فى سورة الحشر(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) أن المسألة من الطباع البشرية الممدودة من بداية البشر على الأرض بل ويبدو فعلا أنها تحتاج الى مقاومة وتحصين للوقاية من هذا الطبع اللئيم اللعين..  (لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..  وقال أيضا فى ذلك (أحب الأعمال إلى الله عز وجل : سرور تدخله على مسلم/ أو تكشف عنه كربة /أو تقضي عنه دينا / تطرد عنه جوعا / ولئن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد شهر) ..                          لكن هناك حديث له وقعه العظيم على نفس المسلم الذى يرى ويتبصر بالحال والمصير إذ يقول صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم .. بأكثر إفسادا لها من حب المال والجاه في دين الرجل)..  الذئبان الجائعان سيفترسا الغنم ولن يتركوها سوى عظام متكسرة ..هكذا حب المال وهو شىء يكاد يكون شائع للغاية ..لكن حب الجاه هذا هو الخطر الأخطر لأنه يمس المجتمع فى قيمه وثوابته .. كما يمسه فى مؤسساته وهيئاته والأكثر  تضررا هى روابط الأجيال التى ترى و تتلقى نماذج الكذب والإدعاء والرغبة الشرسة فى الصعود وذيوع الصيت والشهرة وغزو الدنيا والتعالى على الناس.. وأثر ذلك كله على تفكك فكرة(الصالح العام) والإخلاص فيه. 

**** 

الشاعر الكبير إليا أبو ماضى(1890 -1957م) له قصيدة مشهورة عن الأنانية والأثرة ..يقول فيها (وتينة غضة الأفنان باسقة/قالت لأترابها والصيف يحتضر/بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني/عندي الجمال وغيري عنده النظر,,, الى أن يقول : لأحبسن على نفسي عوارفها /فلا يبين لها في غيرها أثر/ ولم يطق صاحب البستان رؤيتهافاجتثها/ فهوت في النار تستعر/  وفى النهاية : من ليس يسخو بما تسخو الحياة به/ فإنه أحمق بالحرص ينتحر..                                                                                                                 شجرة تين تمردت على الطبيعة الكونية التى يجب ان تكون عليها المخلوقات.. رفضت ان يأكل منها الطير والإنسان بل وتجاوزت بالرفض أن ينظرإليها أحد..بخل وشح وتقتير وعدم رغبة بالعطاء من النوع  بالغ التكلفة إذ سيأتى البستانى ويراها كذلك يابسة منكمشة فيجتثها من جذور أهلها ويرميها في النار كحطب .. وسيكون هذا حرفيا مصير كل من عنده خير ويمنعه . 

آدميون نحن ولنفس الأصل ننــــتمي/  فكيف نهنأ بالعيش والغير يألم/ ما استحق الحياة من يرى أخاه يشقى/ وهو بالملذات والخيرات ينــعم.. إنه شاعر(روضة الورد) المزهرالجميل .. سعدى الشيرازى(1210 -1290م)الذى كان له تأثيركبير على مفكرى وشعراء التنوير فى العصور الوسطى خاصة فولتير وديدرو وجوته.. 

**** 

نعانى فى مصر الأن من(شح الاثرياء).. وهذه حقيقة من حقائقنا التى يجب أن ننظر إليها فى أم عينيها , وأعتقد أن لها أسباب كثيرة وعميقة ,بدأت مع حركة الضباط  1952 م وسيطرتها على الأوقاف وتدخلها المرعب فى مال الوقف وأملاكه.. لن نناقش السبب الحقيقى الكامن خلف حرمان المجتمع من عيون ماؤه الفياضة بالخير فى كافة قطاعات الحياة : تعليم وصحة وطرق وغير ذلك مما يحدثنا عنه صديقنا المفكر الكبير د/ ابراهيم البيوى غانم ..                                                                                                                 لكننا سنحتاج زمنا طويلا حتى نعود بالناس والمجتمع إلى هذه الثقافة الأخلاقية والاجتماعية الضخمة والمغموسة بل والمترعة بعسل حضارتنا الإسلامية العظيمة .. والحديث يطول عن هذا الجرح العميق الذى أصاب أهم وأخطر جهاز مناعة فى جسد أمتنا .. لكن النماذج  الكريمة التى تطل علينا من نوافذ الخير من وقت لأخر تمنحنا شعاعا مما نتمنى ونأمل وجوده فينا من ضى العطاء والبذل..                                                                   يتحدثون فيما يشبه الاجماع عن تلك السيدة العظيمة (هبة  السويدى) ويتحدثون أكثر عن شفائف الإخلاص والصدق التى تغلف كل ما تفعله .. وأبحث واسأل عن أنواع الخيرات التى تضع فيها كلتا يديها ستجد أنها موجوعة بوجع الناس وأنينهم  قائلة: من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا...ويتحدثون فى ذلك أيضا الحاج محمود العربى وما يقوم به مع العاملين معه وعائلاتهم وما يقوم به فى عموم المجتمع ..ونأمل أن تصبح تلك الهالات المضيئة قمرا كبيرا فى سماء حياتنا لا ينقص ولا يغيب .  

**** 

يصفون رسول الله  صلى الله عليه وسلم بأنه كان جوادا وكان أجود ما يكون فى رمضان فهو كالريح المرسلة.. وبالفعل يرتبط رمضان لدي أمتنا بالجود والسخاء وفضيلة الكرم والعطاء .. وأدبيات الحديث فى ذلك كثيرة نحفظها ويرددها الاعلام والعلماء..لكن يبقى ما هو أهم ..هو أن نرى ذلك بين الناس ..وجمال الوقت وروعته فى استعداد النفس فيه للتدرب على هذا الخلق الأكثر فيضا فى أيدينا وفيوضا فى قلوبنا .. ليصبح بعدها خلقا أصيلا فينا .. عامرا بالخيرات علينا وعلى أهلينا ..وأقول علينا أولا..فلا يعلم إلا الله وحده مقدار ما يغمر النفس بعدها من طهر وتزكية كما فى الأية الكريمة(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ..) .                  يقولون أن الصدقات وفعل الخيرات تمثل سلامة وصحة وبركة وسعادة ونور ورضا وشفاء وتوفيق وتيسير للإنسان ومن معه فى قارب حياته الذى يبحر به وبهم وسط أمواج و أنواء عاصفة ليس لنا فيها إلا حفظ الله..ونور الله .. وستر من الله .