الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 04:51 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

علم وحزن وحياة.. عن (بنت الشاطئ) أتحدث

ما أعظم الإسلام في مصر وما أعظم مصر بالإسلام ..وما أعظم الشرق بمصر وبالإسلام ..فلا شرق بلا مصر  ولا شرق بلا إسلام ..الشرق والإسلام ومصر مثلث القوة والحضارة وإنسانية الإنسان على الأرض ..وهو ما أدركه الغرب المتسلط ..ومبكرا جدا بعد أعاصير الحروب الصليبية في القرنين الحادى عشر والثانى عشر فأصبح الشرق بالنسبة له مصر والإسلام..الأمر الذى تطور بعدها إلى أشكال كثيرة من العداء والعدوان على المشرق الحديث وصنع مصيره.. وتركز تركيزا مركزا على(تاج الشرق)وهو ما لخصه بعبقرية رائعة شاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم(1872 -1932م) في مقولته الأشهر:
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ** ودراتــه فرائـد عقـدي .                        أنـا إن قـدّر الإله مماتـي لاترى **الشرق يرفع الرأس بعدي ..                      ورب كلمة خيرمن ألف كلمة.. وهو ما ينطبق تماما على مقولة (حافظ )رحمه الله في حديث مصر عن نفسها . 

**** 

أقول ذلك ونحن نتذكر إحدى عظيمات مصر والشرق والإسلام في ذكرى رحيلها 1 ديسمبر 1998م الدكتورة عائشة عبد الرحمن.. المرأة التى عانقت عمرها دينا ودنيا .. وما أقوى الذكرى في كونها (امرأة ) ومسلمة ومن الشرق ومن مصر..لتنفى تهمة كذوبة عن(المرأة المغلوبة) في الإسلام..فهى بذاتها وحياتها و تاريخها وعلمها وأثرها وأستاذيتها العريضة في المشرق والمغرب الدليل الناصع البياض على الدور النافذ للإسلام في الحضور النافذ للمرأة في دنيا الإنسان .. ولاأدرى في أى كفة يضع المرء من هى مثل (بنت الشاطىء) مع أخريات لا تسمع منهن إلا(ضجيجا بلا طحن) على رأى عمنا شكسبير(1564-1616م) في مسرحيته الشهيرة والمثل واضح البيان بل من أكثر الأمثلة تبيانا ووضوحا على الطنين الفارغ والصخب الأجوف ثم لا شىء ..فقط..صوت عالى وجوف خالى..إلا من بعض(الأجسام المضادة)التى تهاجم خلايا أمخاخهم وأرواحهم . 

**** 

أما هى فقد أدركت الحقائق وعانقتها ومثلتها عمرا وعصرا طويلا من عطاء ممدود بطول الحياة وعرضها .. ولا أدرى كيف غابت(الدراما)عن الاقتراب من هذه السيدة العظيمة الضخمة العطاء في الدنيا والدين..وهى التى كانت حياتها في(الدنيا)ملحمة كاملة من الدراما بالمعنى الكامل لهذا المصطلح من يومها الأول ليومها الأخير .. وهى التى كانت حياتها في(الدين)باب الأبواب في علوم القرآن..ليس فقط لشهرتها الطاغية كأستاذة للتفسير ولكن أيضا لقراءاتها العميقة لقصة(الإنسان)في ظلال هذا الدين العظيم ..  

ستقول لنا سيرتها في(الدنيا)أنها كانت روضة من رياض العشق.. ومن لا يعرف هذا الحب العظيم الذى كان مع حبيب عمرها (د/أمين الخولى)لم يعرف معنى الحب وسيرة الحب الذى دام 62 عاما( 1936-1998م) إلى أخر يوم في حياتها ..ولكى تكتمل الدراما يموت الحبيب الذى أذاقها وأذاقته كل ألوان الهناء ..فتسمع منها ما لا يحتمله قلب بشر في لذعة الأحزان وتتعجب كيف عاشت وبين ضلوعها كل هذا الحزن.. وكأن الدنيا لم تسع حبهما فكان كما قالت : كيف لم أهلك أسى حزنا عليك؟ كلما قلت دنا ميعادنا خانني الظن ولم أرحل إليك..مزقت أيدي المنايا شملنا و أراني دائما.. بين يديك..!! 

وتقول وتقول ..(أكان ممكن ان أضل طريقي إليه ..فأعبر رحلة الحياة دون أن ألقاه ؟ حتى آخر العمر لم يتخل عني إيماني بأني ما سرت على دربي خطوة إلا لكي ألقاه..وما كان يمكن أن أحيد عن الطريق إليه.. وقد عرفته في عالم المثل و مجالي الرؤى والأرواح من قبل ان تبدأ رحلة الحياة.. ) قالت كل ذلك وأكثر في جزء من سيرتها المنشورة في كتاب(على الجسر..بين الحياة والموت).                                                                                 

**** 

أما هذا الحبيب الذى سكن قلبها فأفسحت له كل الحجرات .. الشيخ أمين الخولي (1895 - 1966)  فهو العالم والأكاديمي والمفكر والسياسى والمجدد ومؤسس(مدرسة الأمناء) والذى كان أحد كبار حماة اللغة العربية والاسلام والمناضل الصلب الذى نُفي مع أبطال ثورة 1919 م ..وصاحب : المجددون في الإسلام.. ومن هدى القرآن.. وصلة الإسلام بإصلاح المسيحية ..وتاريخ الحضارة المصرية ..
أثمر هذا الحب ثلاثة ثمرات(أمينة وأكمل وأديبة)..شهودا أحياء على حب عظيم لحبيبين أبد الدهر..ولتذق معه العالمة الصابرة ألم بين ألمين وحزن بين حزنين.. ألم وداع الزوج والحبيب ..وألم وداع إثنين من أبنائها.
ألم أقل لكم أن دنيا بنت الشاطىء كانت دنيا غزيرة بالحياة التى أمتدت ونفذت وشملت ما تضيق به حكايات الدنيا والناس في هذه الحياة . 

**** 

تركت بنت الشاطئ لناأكثر من أربعين كتابا في الدراسات الإسلامية والفكرية وأبرز مؤلفاتها بالطبع هو( التفسير البياني للقرآن الكريم).. والذى اعتمدت فيه على تتبع(الكلمة) وتكرارها في القرآن والقصد من ذلك.. وتراجم سيدات بيت النبوة(أم النبى /نساء النبى/بنات النبى).. وتقول عن قصة هذه السلسة أن كاتبة أمريكية كانت تريد أن تكتب عن نساء عظيمات .. فذهبت للسفارة المصرية بواشنطن لتسأل عن كتاب يتحدث عن السيدة (أم النبي) صلى الله عليه وسلم فلم تجد ..فأرسلت السفارة إلى الأزهر فلم يجد كتابا مكتوبا عن أم النبي .. ولأنها مصر العظيمة تتبع وتأمل باقى الحكاية ..  

 كان مديرا الإدارة الثقافية في وزارة الخارجية في هذا الوقت هو د/عصمت عبد المجيد(1923 -2013م)و الذى أصبح وزيرا للخارجية في عهد الرئيس الأسبق مبارك.. وقام الرجل بالاتصال بها فهو يعرفها ويعرف أن ما يبحث عنه سيجده لديها .. وقد كان..فقال لها :بماذا أجيب تلك السيدة الأمريكية؟ كان من الممكن أن يقف الخط عند سؤال الأزهر ورد الأزهر..لكنك تتكلم عن مصر(تاج الشرق)كما ذكرت أولا..نقطة ومن أول السطر.  

الحاصل أن الدكتورة عائشة عبد الرحمن طلبت منه مهلة ثلاثة أشهر.. وتفرغت( صاحبة الأحزان)تماما للكتابة في هذا الموضوع ..وخرج لنا كتاب(أم النبي)..ولأن الحسنى ..حسنى وزيادة..قررت أن تتابع الموضوع فكتبت أيضا (نساء النبي وبنات النبى) والتى صدرت موسوعة فى 5 مجلدات بعنوان (تراجم سيدات بيت النبوة) والتى لقيت شهرة كبيرة في العالم الإسلامي وترجمت إلي اللغات الفارسية والأردية والأندونيسية واليابانية وكانت سببا في دخول كثيرات إلي الإسلام .. إذ وجدوا أمامهم المثل الرائع لصورة المرأة إنسانيا وحضاريا إلي جانب الناحية الروحية بالطبع .. 

**** 

حققت الدكتورة/عائشة عبد الرحمن شعبية كبيرة من خلال الكتابة الصحفية والتى كانت قد انتبهت لها مبكرا .. وكانت مقالاتها في الأهرام ينتظرها ملايين القراء أسبوعيا.. وفى رمضان يوميا (أنوار رمضان) وما كان هذا ليغيب عن الأستاذ هيكل(1923 -2016م) أستاذ الأساتذة في معرفة أوزان الناس وأقدارهم..فقال عنها: أنها الوجه الاسلامى لمصر فقد عرفناها مؤمنة مقاتلة في سبيل فكر أعطته علمها وعمرها وتفانت فيه إلي درجة التوحد والفناء.  

سيكون هاما أن نعرف اختلافها مع د/ طه حسين(1889 -1973م)فيما كتبه عن الشعر الجاهلي والذى اعتبرته أحد أدوات التفسير المهمة.. وكان الفاروق رضي الله عنه أول من لفت الأنظار إلى أهمية الشعر في فهم القرآن الكريم و ألفاظه قائلا: تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإنه فيه تفسير كتابكم ..كما قال الشاطبى رحمه الله(1323- 1388م) في كتابه الشهير( الموافقات في أصول الفقه).
وكان د/طه حسين هو من ناقشها في رسالتها للدكتوراه عن أبى العلاء المعرى ورسالة الغفران. 

واختلفت أيضا خلافا شهيرا وحادا مع د/ مصطفى محمود(1921 -2009م) في تفسيره للقرآن تفسيرا عصريا ..كما قال في محاولته الشهيرة ..وعابت عليه عدم امتلاكه أدوات التفسير من علوم اللغة و العلوم الشرعية الضرورية  

**** 

كانت رحمها الله ترى أن إصلاح اللغة العربية ضرورة ..والتمسك بها أساس حياة ..وقالت :حين تمتحن أمة بسرقة لسانها تضيع و تمسخ شخصيتها القومية وتبتر من ماضيها وتراثها وتاريخها ثم تظل محكوما عليها بأن تبقي أبدا تحت الوصاية الفكرية والوجدانية للمستعمر حتي بعد أن يجلو عن أراضيها.. مؤكدة بوضوح على ضرورة سعينا الدائم لاستعادة ذاكرتنا القومية والنهوض بحاضرنا القائم علي أصالة ماضينا .. وفاء بحق الأمة في أن تستضئ بتراثها .. لتستكمل وعي ذاتها وفهم تاريخها ومعرفة مواقع خطاها من ماض إلي حاضر. 

وأختم برسالة كتبتها الدكتورة/عائشة إلى أبيها تفيض بالمعنى والمغزى فتقول له : إلى من أعزني الله به أبا تقيا زكيا ومعلما مرشدا ورائدا أمينا ملهما وإماما مهيبا قدوة فضيلة .. والدي العارف بالله العالم العامل الذى نذرنى رضي الله عنه لعلوم الإسلام ووجهني من المهد إلى المدرسة الإسلامية وقاد خطاي الأولى على الطريق السوي يحصنني بمناعة تحمى فطرتي من ذرائع المسخ والتشويه. 

وضع ألف خط تحت كلمات تحصين ومناعة ومسخ.. لتعرف ما تعرضت له المرأة بيننا وعندنا وبنا من عوامل(تعريه) ذهبت بها بعيدا هناك.. لتظل تتلفت وتدورتائهة حائرة سائلة: من أنا؟ وكيف أنا ؟وأين أنا ؟.