السبت 27 أبريل 2024
توقيت مصر 09:54 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

رحل البشري.. فماذا بعد الرحيل؟

ربما لم أسعد بلقاء المفكر والمؤرخ الكبير المستشار طارق البشري إلا مرات معدودة كان أغلبها تغطية لفاعليات سياسية أو ثقافية  أو فكرية يكون فيها رحمه الله محاضرا أو أحد المحاضرين فيما ألتقيته مرة أو مرتين أجريت فيها معه - رحمه الله - حوارا صحفيا مطولا غير أنه ومع كل لقاء كنت أخرج مستشعرا ضآلة لا حدود لها.. إذ كنت أتساءل وقد كان أغلب هذه اللقاءات في شبابي ما الذي يمكن أن يفخر به مثلي أمام مثل هذه القامات وكيف للإعلام - سامحه الله - أن يلتفت بأضوائه بعيدا عن أمثال المستشار البشري فينجم ويلمع الصغار والرويبضات تاركا مثل هؤلاء الذين يمتلكون الكثير مما يمكن أن يساهم في إصلاحنا وإصلاح أمتنا؟
والحقيقة ورغم مرور العديد من السنوات لست قادرا حتى اللحظة على أن أرد على هذا التساؤل الذي كان يدور في ذهني بل انبثق عن التساؤل القديم سؤال جديد وهو.. هل كان ولا زال وراء هذا التغييب والإقصاء لأمثال البشري رحمه الله خطة ممنهجة تستهدف إبعاد من يمكن أن يفيدنا أم أن بعض أمثال البشري كانوا ولا زالوا يترفعون عن المشاركات الإعلامية المنظمة - لأسباب وحيثيات معروفة - والتي بكل تأكيد سيكون لها تأثيرها للفت الأنظار ونشر الأفكار؟
أذكر وفي السنوات الأولى للألفية الثالثة وكنت لا زلت أعمل محررا بمكتب موقع صحفي عربي شهير في مصر زار مدير تحرير الموقع القاهرة وطلب مني أن يزور عددا من الشخصيات الصحفية والفكرية في مصر وكان في مقدمتهم بطبيعة الحال المستشار طارق البشري فوضعت ومدير التحرير السعودي خطة للزيارات التي تم الاتفاق عليها بعد الاتصال هاتفيا بكل شخصية.
حبذ المستشار البشري - رحمه الله -  أن يكون لقاؤنا في منزله بحي المهندسين وفي الموعد المحدد للزيارة اتجهنا للعنوان الذي أعطاني إياه المستشار البشري لكن وللغرابة لم نهتد للعنوان سريعا الأمر الذي دفعنا لأن نسأل العديد من المارة في الشارع الذي يقيم فيه المستشار البشري – رحمه الله – غير أن ما أحزنني ولا زلت أذكره جيدا أن أحدا من المارة ومنهم بعض المقيمين لم يعرف البشري فضلا عن منزله.
أصابتني ومرافقي حالة ضيق بعد أن فشلنا في الاهتداء لمنزل المستشار البشري وقد تجاوزنا موعدنا معه بدقائق وخشينا أن يصيبه ذلك بحالة استياء لكن فرج الله جاء سريعا فقد مر بنا شاب علمنا منه وقتها أنه ابن 16 عاما فسألناه عن منزل المستشار البشري فرد بهدوء شديد هو تلك "الفيلا" الكائنة خلفكم فسعدنا وشكرنا هذا الشاب الذي يبدو أنه ممن ابتلوا بالاهتمام بالشأن العام.
والشاهد في سرد هذه القصة هو التأكيد على ما سبق وذكرته في السطور الأولى والمتعلق بتلك الظاهرة الخطيرة من تغيب الإعلام عن مثل هذه القامات أو غيابهم عنه الأمر الذي كان له بكل تأكيد انعكاسه السلبي على تواجدهم الشعبي.
وبما أنني قد ذكرت هذا اللقاء مع المستشار البشري رحمه الله في منزله فأحب أن أشير إلى مسألتين  استفدت منهما أيما استفادة :
فأما الأولى أنه إذا جادلك أحد في بديهية وقد بذلت بعض الجهد في إثباتها له وقد عمي عنها يصر أن لا يفهمها ويعيها فما بيدك إلا أن تنهي مثل هذا النقاش العقيم الذي هو مضيعة للوقت.. إذ المستشار البشري وعقب تعليق وجدال مني على إجابة له على سؤال حول قضية سياسية كانت معاصرة وقتئذ قال لي وقد أطلت الجدال "طيب أعملك إيه " وهي عبارة لا تعني عجز الرجل عن الرد علي ما أثرته ولكنها تعني ببساطة شديدة عدم رغبته في التمادي معي إزاء إصرار مني على الجدل الذي لا طائل منه.
وأما الثانية فهي فضيلة التواضع فلقد كانت طريقة الرجل – رحمه الله – في استقبالنا بمنزله وتعامله معنا ببساطة شديدة دون تكلف أو تعالي فضلا عن تحمسه لأن يعرفنا على تلك الصور التي زينت جدران مكتبه ومنزله وخاصة صورة جده الشيخ البشري شيخ الأزهر السابق – رحمه الله – وبعض القصص حوله كانت نموذجا يجسد حالة العالم المتواضع وتناقض صورة هؤلاء المتعالمين المتعالين.
رحل العالم البشري ليلحق بتلك النجوم الزاهرة من علمائنا ومفكرينا أمثال الشيخ محمد الغزالي وعادل حسين ومحمد عمارة وعبد الوهاب المسيري وغيرهم ممن كانوا لبنات مهمة في بناء فكرنا العربي والإسلامي المعاصر وليطرح برحيله ذلك السؤال المهم والمتكرر.. وماذا بعد الرحيل؟