فى البدء كان
الغراب شاهدا على ال
جريمة الأولى التى بدأت وأنتهت على أرض (الغِل) وفى الحقيقة لم يكن شاهدا فقط على
جريمة القتل لكنه كان شاهدا أيضا على عجز (المغلول الأول)الذى للمفارقة جاءته لحظة صدق طارئة فاعترف وأقر وأخذ يندب على خيبته وعجزه .. لا على
جريمةه التى ترقد بين يديه.. أخذه
الغل الى حيث يأخذ كل (مغلول) إلى الخسران والندم ثم اللطم على خيبته والندب والصريخ .. يا ويلتا يا ويلتا ..أو يا خيبتى يا خيبتى ..البعض يقولون أن مكاشفة أخوه القتيل له بحقيقة داءه صدمته صدما صدوما فقال له فورا(لأقتلنك) وأكثر إنسان يعرف داءه هو صاحب الداء نفسه..وواضح أنه هنا بالفعل كان يعرف داءه جيدا..لأنه لم ينفه ولم ينكره ..بل وجم صامتا لحظة كأنه يقول له(وكمان عارف وتقول لى فى وجهى)..ولأن حقيقة أمر الإنسان على الأرض فى حقيقة إختياره بين أمرين (الصح و
الغلط) بكامل إرادته وحريته.. فأختار مدفوعا بكل الدفوعات السفلية فى الدرك السفل من الإختيارات ..فكانت هناك مرحلة انتهت بـأن (طوعت له نفسه) أختيار
القتل ..فقتل
ما حدث من (المغلول الأول) لم يكن إلا الحياة
البشرية نفسها ..الصراع والأختيار .. وأمر بين أمرين .
****
من صفات
الصالحين فى الأخرة أنهم حين يدخلون
الجنة ستتم لهم عملية( نزع الغِل )من صدورهم ..هكذا علمنا القرآن فى
سورة الحجر (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) وفى أى شروحات حول ذلك فهو فى نهاية الأمر (غيب) أٌمرنا أن نؤمن به لا أن نناقشه.. ولُطف الله القريب وشفاؤه لــ(الأستاذ) طارق البشرى الذى قال ذات مرة لأحد أصدقائه القريبين: لا تتخيل ما فعلته بى الأية الثالثة من
سورة البقرة فى مسارى الفكرى والتى تذكر أول صفة للمتقين :(الذين يؤمنون بالغيب)..وأفاض حكيم (أقصى المدينة) فى الحديث لصديقه عن سفينة قلبه ورحلتها الى بحر الأنوار والفيض واليقين ..وعفوا لهذا الاستطراد (فما حيلة المحزون من غير ذكرى ..).
لكن الأمر فى الحياة الدنيا مختلف ..فالمسؤلية هنا تقع على الإنسان نفسه فى مقاومة هذا (
الغل)الذى هو حقيقة من حقائق الحياة التى هى(تكاثر وتفاخر) بين الناس واستطالة بعضهم على بعض وتفاخر بعضهم على بعض ..من يشترى سيارة (همر) لإبنه مثلا ليذهب بها الجامعة ..ما الذى يريد قوله لمن حوله بذلك ؟ أن شوارع المدينة مليئة بالمطبات واضطررت اضطرارا لشراء سيارة قوية تتغلب على المطبات ..؟ ممكن بالطبع يقول ذلك فى حالة من حالات (التواضع المكذوب المفضوح)الذى يدعيه كثيرون للأسف ..لكن واقع الحال غير ذلك .. وقل مثل ذلك فى كل المظاهر التى هى فى حقيقتها رسالة للمجتمع تقول نصا واحدا (أنا أعلى منكم)..وطبعا القرآن علمنا أن قارون لم يكن شخصا ..كان (حالة) .. وازاء هذه الحالة سرعان ما يتكون رد فعل ..هناك السفيه الخفيف الذى سيقول متحسرا (ياليت لنا) وهناك العالم الشريف الذى سيقول محذرا ( ويلكم ).. وتبقى حالة قارون ما بقيت على الأرض حياة..لكن ذلك ليس كل شىء .
****
فقد علمتنا
أخلاق القرآن أن نعلو ونتسامى ونحلق فوق..عاليا ..فوق طين الأرض الذى يجذب الطين الذى فينا وهذا هو عمق المعنى فى رحلة الحياة وعمرنا المعدود فيها ..الأستاذ العقاد رحمه الله تحدث عن سلسلة الخلق العظمى التى يتوسطها الإنسان أشرف الموجودات ..لماذا ؟ لأنه هو النظام بين الموجودات المادية الناقصة والموجودات الشريفة الكاملة ,, مركب بين ما هو أزلى (الروح) وبين ما هو فاسد(الطين) ..والإنسان هو المخلوق الوحيد فى هذه السلسلة القادر على أن يروح وييجى عبرها .. فقط إرادته وإختياره هى التى سيتوقف عليها مكانه ..ممكن يكون إنسان(سافل) وممكن يكون إنسان(عالى) ..وطالما هناك إختيار فهناك حساب .
عبد الله بن عمر ذهب للمبيت عند رجل مجهول وصفه الرسول الكريم ثلاث مرات بأنه (يدخل عليكم رجل من أهل
الجنة) وكل مرة يدخل نفس الرجل ..عبد الله بن عمر كان له طريقه إلى الله الذى حدده لنفسه وكما يقولون الطريق الى الله بعدد خلقه.. فكان أن تصور الصحابى الجليل أن الرجل الموعود ب
الجنة من الرسول يصلى طوال الليل ..فهو يعرف أن هذا هو أقصر طريق للجنة .. لكنه اكتشف حين أقام معه ثلاثة ليال أنه لا يفعل ذلك ..وطبعا لم تكن تنقصه جرأه أبيه الفاروق فسأل مضيفه : الرسول يقول أنك من أهل
الجنة ولم أرك عملت كبير عمل.. فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هو إلا ما رأيت..غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله له.. فقال عبد الله بن عمر: هذه التي بلغت بك..الدعاء الخالد الأثير عند أهل الطريق فى
سورة الحشر(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) وفاء للغائبين وصفاء للحاضرين.
****
كل العلاقات
البشرية ملوثة بـ (
الغل)ومقدماته وأسبابه وتوابعه وأثاره ..العائلة الواحدة ذات الدم الواحد ملوثة بـ(
الغل) وهنا كانت التوصية بهم تسبق أى أحد إذ أنها أكثر العلاقات استعدادا لتفاعلات
الغل ..وصدق من قال الود لا يحتاج الى قرابة لكن القرابة تحتاج إلى ود ..وكلنا عشنا ورأينا وأقتربنا وأبتعدنا ..الجيران أصحاب الجدران المشتركة ملوثين بـ (
الغل)وفورا ستجد التوصية (مازال جبريل يوصينى بالجار..) .
زملاء العمل أسوأ وأسوأ ..وإذا وصفت فلن تقول بيئة عمل مشتركة ..ستقول بيئة(غل)مشتركة .. وهناك من المديرين من لا يصفى له حال إلا فى هذه الأجواء ..طبعا هذا مدير ينقصه الكثير من ضرورات المنصب ..وكما قلت أولا أن صاحب الداء هو أول من يعلم داءه .. فبدلا من استكمال ما ينقصه يدعو الجميع الى معركة مفتوحة تختفى فيه المعالم بين الكمال والنقصان..المجد على جماجم الأخرين.
****
وأسوأ أنواع(
الغل)فعلا وأكثرها دناءة وخطورة هو ما يكون بين العلماء والسياسيين والمثقفين ..محمد على لم ينتصر على الشعب إلا حين انتصر على عمرمكرم ..وكيف انتصرعليه ؟ ب
الغل المدفون عند الشيخ الشرقاوى والشيخ المهدى والشيخ الدواخلى رحمهم الله جميعا ..وانتهت ثورة ال
مصريين الذين أذلوا نابليون وجاءوا بمحمد على بإرادتهم المتمثلة فى نقيب الاشراف عمرمكرم ..ولم يحترم هو هذه الإرادة واعتبر
مصر ملكا ورثه عن أبيه . حاكم
مصر فى الستينيات لم يحتمل أن تسير الجماهير بالملايين فى جنازة مصطفى النحاس ..ولنا أن نتخيل (غل) حى من ميت ..!! حاكم
مصر الأسبق أصر على أن يضع رئيسه السابق(الفريق سعد الدين الشاذلى)فى السجن ورفض كل التوصيات والتوسطات بإصدارعفو عنه مستسلما للـ (غل) منه حين كان رئيس أركان حرب اكتوبر والمكانة التى نالها عند ال
مصريين . نجيب باشا محفوظ أسطورة الطب حكى عن أستاذ الباثولوجى الذى وضع شروح 1500 شريحة ميكروسكوبية لمختلف أمراض النساء فى (قفه) وترك القفه فى أحد الشرفات (غلا)منه للأستاذ الكتورمصطفى بك سرور رئيس قسم الباثولوجى الذى تقاعد وجاء هذا الأستاذ غريب الأطوار بعده ..ومن ينسى(غل )يوسف إدريس من زميله الروائى الذى حاز نوبل (نجيب محفوظ).
شكسبير شاعر الانجليز الشهير حكى لنا عن (ياجو) أبشع شخصية فى مسرحية عطيل لنعرف ونعتبر..والذى كان يحمل(غلا) للجميع .. سيده عطيل وردريجو الثرى وكاسيو القائد الشجاع .. بوشكين شاعر روسيا الكبير حكى لنا عن(غل) سالييرى الموسيقار العجوز من موتسارت الموسيقار الشاب .. فعبقرية موتسارت كشفت له تفاهة ذاته..فيضع له السم وهو يتناول معه الطعام .
****
إنها (معركة
الغل)الذى علمنا الإسلام العظيم كيف نتطهر منه .. أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان.. قيل صدوق اللسان نعرفه.. فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد .
إنه الإسلام الذى جاء ليهدى(الإنسان)إلى أجمل ما فيه ويصرفه عن أسوا ما فيه ..إذا أراد ذلك واختار ذلك .