الإثنين 23 ديسمبر 2024
توقيت مصر 10:22 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الفيلسوف وبائع الفول.. والنبيل الجميل أحمد خالد توفيق

فى العدد 37 من سلسلة فانتازيا والذى يحمل عنوان (فلاسفة فى حِسائى) والتى بدأت فى الصدور عام 1995م وصدر منها 64 عددا تقول(عبير عبد الرحمن) بطلة السلسة فى تعريفها للفلسفة والفيلسوف قائلة : الفلسفة هى فن إضاعة الحقيقة , البحث عن الشمس بينما هى تضىء الأفق , الفيلسوف هو شخص فشل فى أن يفهم الحياة كما هى ..  

ثم تقول : الإيمان بالله هبة ظفر بها البسطاء , بينما حرم منها أكثر فلاسفتكم , تعتقدون أن الطعام وجد كى لا نأكله ,والشراب وجد كى لا نشربه , والحب وٌجِد كى لا نعيشه , هناك أشياء مهمة فى الفلسفة بالطبع , لكن هناك أشياء لا تطاق ولا يمكن احتمالها , لو قارنت فى ميزان البشرية(بائع الفول)الواقف على باب شارعنا بـالفيلسوف (نيتشه) لرجحت كفة بائع الفول على الفور, إنه رجل سعيد , مفيد لنفسه وللأخرين . 

هذه المقطع من (فلاسفة فى حِسائى) يعد من أشهر المقاطع المتداولة وأشهر الاقتباسات التى أخذت مما كتبه الراحل العزيز علينا جميعا  د/ أحمد  رحمه الله(1962-2018م) .. والذى أشرف بأنى من جيله الذى يقترب الأن من الستين لكنى لم أشرف بمعرفته مباشرة  واضح طبعا أن الرجل مهذب  حتى فى سخريته, ففى اختياره للعنوان كاد الوصف أن يهبط قليلا من طبق الحِساء(الشوربة) إلى طبقة أخرى من المنتجات الجلدية لكنه أكتفى بمهارة الحروف . 

**** 

عمق البساطة يكاد يكون موهبة قبل أن يكون(صنعة) وصاحبنا الجميل كانت له الموهبة وكانت له الصنعة .. فعليك إذن أن تعيد قرائةما قرأته له مرات كثيرة لكى تنفذ ببساطة إلى عمقه الأخاذ بتلابيب المعانى ..لولا خوف المبالغة لقال أحدهم أن كتابات (أحمد خالد) ستقرؤها أجيال وأجيال كما تُقرأ حتى الأن كتابات بيدبا الحكيم الهندى القديم  فى(كليلة ودمنة) .. الصغير يقرأ ويسعد ..الكبير يقرأ و يفهم العامى يقرا ويستمتع المثقف يقرأ ويختزن فى صناديق المعانى ألف معنى ومعنى .. 

**** 

السطور القليلة فى أول المقال التى قرأناها على لسان (عبير عبد الرحمن)مليئة بالدلالات والمعانى ,لقد تحدث الرجل عن : (الحقيقة ) و( الفهم) و(الإيمان) و(البساطة) و(التفحيص) و(السعادة) و(المساعدة).. ويا لهول وعظم ما جمع من معانى توزن بوزن الأرض ذهبا وتزيد ..
فالحقيقة تشير الى كل ماهو حق.. وأقوى ما تشير وأشارت كانت فى الطريق إلى الله سعيا وحبا ورجاء .. ويقولون فيها هى أنها المعنى المقصود والمستتر وراء الشريعة وأحكامها ..والأية الكريمة فى سورة الحج  تقول (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم..) والذين اهتدوا بنور الله إلى وجوه الحقائق يعلمون أن الإثنين لا يفترقان..الذبح باليد والصدقة..والقلوب العامرة بالتقوى وكرامة التزكية ..وأبوحامد الغزالي(1085 -1111م)  له كلام جميل فى ذلك التوفيق بين الحقيقة ومقاصد الفعل العبادى وبين وتعاليم الدين، أو بين الحقيقة والشريعة ..  

مرتبة (الفهم) هذا من عمق أعماق المعانى والأية الكريمة فى سورة الانبياء تقول(ففهًمناها سليمان..) ومن دعاء الصالحينقولهم( اللهم أتنى فهم النبيين وحفظ المرسلين) .. وهم يعتبرونه حصاد التجربة الطويلة او القصيرة على درب الصدق والاخلاص كما فى سورة الزمر( ألا لله الدين الخالص..) .. 

**** 

وستأخذنا البساطة التى هى أحلى حلويات عقل وفكر وقلم د/خالد ..ستأخذنا إلى أننا  نهينا عن التكلف والأية  الكريمة فى سورة ص تقول ( وما أنا من المتكلفين..) والتكلف هو ما يشق على الانسان عمله ولا يسهل عليه  والمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له.. أو يدعي علم ما لا يعلمه ..            التنطع والتشنطع وقلب المراتب والأحكام وتكبير الصغير وتصغير الكبير إذا خولف فيه(هواك ومصالحك الشخصية)..وأيضا توجع البعض حين يعلم أن الحسنات يذهبن السيئات وأن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما إذا اجتنبت(الكبائر)  هؤلاء الذين يريدون الناس فى حرج ومشقة وعسر وليعاذ بالله..وهذا النوع من البشر إما عندهم مشاكل تتعلق بناقلات عصبية(الدوبامين) مثلا فى اماكن معينة من المخ (ميزوليمبيك) وهؤلاء حلهم سهل..  

**** 

وإما أنهم من سلالة (حرقوص) الذى قال للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (إعدل يا محمد) فى جلسة توزيع غنائم ثم أصبح من أشد الخوارج وأعدى أعداء سيدنا على بن أبى طالب فيما بعد ..كل من تراهم حضرتك فى الحياة يصدون عن سبيل الله بالجهالة (الحرقوصية) فيحرم ويحلل على حسب ما تسعفه شخصيته (الحرقوصية) من خيالات وعلل وعقد أجتماعية ..أعرض عنه فى هدوء ولاترد عليه ..قد يتصالح مع نفسه وعائلته ويحقق بعضا من أهدافه الشخصية فى الحياة ..فيهدأ ويرضى ويقلع عن الحرقصة ويدع الناس فى طريقهم الى الله يحسنون ويسيئون ويستغفرون  ويتوبون..وقد ينشغل عن كل ذلك بنجاحاته أو خياباته واخفاقاته وصدق من قال أن ( معرفة العلل إلهام.) 

**** 

على أن هناك حرقصة حياتية  يومية فى الدنيا والناس وكلها غارقة فى الدهاليز النفسية السفلى لا علاقة لها بالدين ونصوصه ومراتب أحكامه هذه المرة ..ستجدها فى العائلة والأقارب بدوافع خفية , وألف لون وعلة .. ستجدها فى زملاء العمل الذين يثأرون لضعفهم من مهارتك وحضورك العريض ,  ومن خستهم فى شرفك وكرامتك  .. ومن جديتك وقيمتك فى تفاهتهم وتدنيهم وفراغهم العقلى والفكرى والاجتماعى.. 

أما الغوص والتفحيص فى الأشياء والمواقف فهو بالفعل مزعج واحيانانا مؤلم للنفس و الأخرين الذين سيعانوا من ذلك بالطبع .. وكان سيدنا على يدعو إلى عدم التفحيص .. يكفى المرور السريع على الموضوع طالما أنه لا يحتاج أكثر من مرة مرور ..والضرورة تقدر بقدرها ..                                                            إيليا ابوماضى(1889-1957م) له بيت جميل يقول فيه: (إن التأمل فى الحياة..يزيد أوجاع الحياة)..إنها الأوجاع التى قد تأتى من التناقض الذى لايستطيع العقل المجرد استيعابه وفهمه كإنقلاب الأحوال فى حياة الطيبين وكتخوين الأمين وإئتمان الخائن..وغير ذلك مما لا يستقل العقل بإدراكه ..                                       لكنه دائما ما يكون قريبا من ذى الجلال والاكرام خالق كل شىء وهو الواحد القهار.. ويبرأ من حوله الضعيف وقوته المحدودة فى الفهم والفعل .. ويلتجأ إلى حول وقوة وتدبير مالك الملك ذو العرش العظيم.  

 

لكن إختياره لإسم البطلة(عبير عبد الرحمن) كان جميلا جدا جدا وموفقا للغاية ..وكرمز وإشارة لن تخطىء أى عين دلالتها ..ولنا معها ومع الفيلسوف الذى أختاره د/ أحمد على لسان عبير عبد الرحمن وبائع الفول البسيط مقال قدام إن شاء الله فالمقابلة بين نموذج(نيتشه1844_1900م)كفيلسوف تطاول وتكبر ثم فقد عقله وحُجز فى مصحة..وبائع الفول السعيد المفيد ..هى مقارنة بالفعل تستحق وقفات ونظرات وأيضا الكثير من العبرات. 

نشر بموقع المصريون 

Twitter:@elhamamy