الأربعاء 13 نوفمبر 2024
توقيت مصر 07:10 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

فى الإعتزاز بالسفالة والتبجح بها

حكى لى أحد الأصدقاء أنه أختلف ذات مرة مع أحد معارفه حول موضوع ما, فذكره بالاتفاق الذى كان بينهما  بخصوص هذا الموضوع و(كلمته) التى تعهد معه بها.. فردعليه قائلا (الكلمة ليست سيفا على عنقى !).   
المشكلة هنا لم تكن فى رده العجيب فقط بل وتبجحه فيه دونما ذرة خجل.. ليس هذا فقط بل كان رده بالفصحى!! .. ليس هذا فقط بل_ وكما عرفت من صديقنا _ أنه شخص من عائلة لها إسم.. ليس هذا فقط بل وقال كلمته هذه أمام رجال لهم (جثث ضخام) من أفراد عائلته.. والوصف للمتنبى الذى قال فى أمثالهم :
دهرناسُهُ ناس صِغار** وإِن كانت لَهم جثَث ضخام.
وما أصدق الوصف فيهم بأنهم ناس صغار.. كان من الممكن أن يعتذر الرجل بأنه طرأ عليه ما جعله يتراجع عن كلمته التى هى بالفعل سيف على عنقه.. فكلمة الرجل/ شرف الرجل.. لكن هيهات فقد أبى إلا أن يتسافل بل ويتبجح بسفالته.. فمثله لا يعرفون أدب الاعتذار ومحاولة تسوية الموضوع بطريقة مرضية للطرفين. 

طبيعي جدا أن يكون في الحياه أشرار و أوغاد وسفله لكن غيرالطبيعي هو أن يكون لهؤلاء السفلة فلسفة يبررون بها أفعالهم بل ويحاولون إقناع الناس أن ما يفعلونه هو طبيعي وضروري بل إنهم  يصلون إلي درجة من التبجح يرون معها أن اختياراتهم وأفعالهم هذه هي الصواب الكامل الذي لا يرون غيره صوابا.. في حاله تبعث علي النفور والاشمئزاز..لأننا نكون أمام موقف غايه في التبجح والوقاحه.  

**** 

القرآن العظيم علمنا أن هناك ناس يعتزون بالإثم..الأية الكريمة فى سورة البقرة تقول (وإذا قيل له إتق الله أخذته العزة بالإثم )..ويا لقوة التعبير القرآنى الذى يحيط بالمشهد إحاطة تامة..سنتذكر موقف المنافق الذى قال للرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الإعداد لغزوة تبوك أخرغزوات الرسول الكريم (عام 9 هجرية -630 م) .. إئذن لى ولا تفتنى ..إنه يتهم الرسول بتعريضه للفتنه لو خرج معه فى هذه الغزوة ..سنعرف أنه كان تافها جدا ولم يرد عليه الرسول وأعرض عنه..وعذره الذى قاله كان أتفه منه (كانت تضطرب حواسه حين يرى الشقراوات)وهن كثيرات فى المكان الذاهبون إلى الحرب فيه (الدولة الرومانية)..وبالتالى فأفضل له أن لا يذهب صونا لنفسه من الإنحراف..هكذا قال..وهكذا أعرض عنه الرسول.
وتروى لنا سيرة الفاروق أن أحدهم ضُبط متهما بالسرقة ومعروف فى شريعة الإسلام العظيم (درء الحدود بالشبهات) بل والمفروض على القاضى أن يساعد المتهم ويفتح  له بوابات الخروج من الإتهام ..لكن أحد فلاسفة السفالة كان له موقف مختلف وحظه التعيس أنه كان أمام (عمر).. فحين سأله الفاروق لما سرقت ؟ توقع منه أن يقول أى شىء يدفع به بعيدا عن الحد..إحتياج ,اضطرار, فقر شديد.. لكنه قال شيئا أخر تماما .. قال إنه سرق بقضاء الله وقدره.. وفى اللحظه نفسها قال له عمر: إذن نقطع يدك بقضاء الله وقدره .. 

**** 

التاريخ مليء بنماذج كثيره لتبجح السفالة..الأستاذ رجاء النقاش(1934-2008م) رحمه الله له مقاله بالغة الأهمية حول ذلك بعنوان(فلسفه السفالة) كتبها فى 9 يونيو 1997 م بجريدة الأهرام.. ولا أدرى هل هى صدفة أن يكتب هذه المقالة فى ذكرى ثلاثين عاما على يوم( 9 يونيو 1967م )وهو اليوم الشهير فى تاريخ مصر المعاصر الذى خرجت فيه مظاهرات التنحى استجابة لخطاب الزعيم الذى كتبه الأستاذ هيكل بمعلمة وصنعة بالغة الحرفنة..فقد كان الخطاب موجها بدقة شديدة ..أُريد به أن يؤدي لمظاهرات التنحي..إذ أن خطابات الاستقالات الرئاسية لا تقدم للجماهير..ولكن تقدم للبرلمان_كما يقول د.خالد فهمى أستاذ التاريخ المعروف _ لكن ما حدث أن الخطاب أذيع للناس وجاء طويلا بأكثر من اللازم..ما يوحي بأنه ليس بخطاب شخص خرج ليقول إنه (راحل)..
رحم الله الأستاذ رجاء فقد كان أستاذ الكٌتًاب المؤدبين المهذبين وأكتفى فقط فى تعليقه على هذا الموقف التاريخى بنشره لهذه المقاله فى هذا اليوم 9 يونيو .. ما يجعلك تضع المشهد كله دون تصريح مباشر منه تحت عنوان المقال(فلسفة السفالة)..لن تتعجب إذن من تلك الكيمياء الرهيبة التى كانت بينه وبين الروائى الكبيرنجيب محفوظ (1911- 2006م) أحد كبار المهذبين فى دنيا المصريين ..نجيب محفوظ قال كل حاجة عن هذا السلوك وغيره فى رواياته..من لا يتذكر الأستاذ (محجوب) فى رواية( القاهره الجديدة) والقرنين الشهيرين فوق رأسه فى الفيلم (القاهرة 30 _ إنتاج عام 1966م) فى مشهد لا يخرجه الا المخرج الكبير صلاح أبوسيف(1915-1996م).  

**** 

كان نابليون بونابرت(1769 -1821م) أحد كبار السفلة فى التاريخ  الحديث ويقولون أنه قال لعدد من المحيطين به ذات مرة أن(الشرفاء لايصلحون لشيء)هذه العباره العجيبة التي قالها نابليون الذي عاش حياة مليئه بالتجارب الصعبه والقاسيه ..تسهل علينا فهم المجتمعات المضطربه التي تنتشر فيها السفالة حيث يعجز الشرفاء _غالبا _في تحقيق أهدافهم ويصلون إلى طريق مسدود..فهم يعملون بأخلاقيات العدل والاستقامة وهذاالطريق عادة ما يكون مغلق أمام مثل هؤلاء الشرفاء. 

الأديب الفرنسي الكبير بلزاك (1799 -1850م) والذى عاصر نابليون ..له روايه شهيرة تقدم نماذج لفلسفة السفالة إسمها (الأب جوريو) نشرت عام 1835م  وصف فيها الذين يحاولون تجميل القبح وتزيين الشر و لا يشعرون بالسعاده والقوة إلا إذا تحققت علي جثث الأخرين ..أسمع لـ(فوتران) المجرم القديم وهو ينصح الشاب الطموح (راستنياك) ويرسم له طريق النجاح فيقول له (إني أري علي جبينك كلمه قرأتها بوضوح هي:الوصول..والوصول بأي ثمن..برافو إنك عملاق تلائمني.. إعلم أنه ليست هناك  مبادئ..هناك فقط  أحداث..و ليست هناك قوانين..هناك فقط ظروف.. والرجل الناجح هو من يحتضن الأحداث والظروف لكي يسيطر عليها وينتفع بها ..إنسي المبادئ والقوانين ..هل تعرف كيف يشق الناس سبيلهم فى هذه الدنيا لكى يكون لهم مركز كبير؟ إنهم يشقونه بأحد أمرين : المهارة أو الخِسة..والخِسة مثل المهارة..ستصل بك الى هدفك ولكن من طريق أخر .
**** 
التبجح بالسفاله من أخطر الأمراض الاجتماعية التي  يعاني منها مجتمع ما وعندما  تصبح صريحة ووقحه في الدفاع عن نفسها وتبرير وجودها فذلك إيذانا بشرورعظيمه تلحق بالدنيا والناس ..والحل الصحيح أمام هكذا سفالة هو أن نفضحها ونعريها ونكشف ما فيها من تزوير وتزييف وألا ننخدع بمظاهر القوه التي تبدو بها ولا بالثقه والتباهي الذي يكون معها..والأهم ألا ننخدع بما تحققه من نجاح في الإعتداء علي الأخرين ..
هذه السفالة المتبجحة تظهر غالبا في المجتمعات التي تبتعد عن الدين وأخلاقياته وتغيب عنها سلوكيات الوعى بـ (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون *ليوم عظيم *يوم يقوم الناس لرب العالمين)كما وردت فى سورة المطففين.
ولنذكر أن نابليون قال كلمته التي ذكرتها أولا في أوائل القرن التاسع عشرحين كان منطق الصراع قائم علي القوه لا الحق .. وعلي القدره لا العدل  ولا يزال .. وكان الناس ولا يزالون ينظرون بإعجاب بليد إلي التفوق والنجاح حتي لو كان غير أخلاقيا . 

**** 

تأملوا معي تطبيقات بجاحة السفاله في أحوالنا التي نعيشها هذه الأيام .. ولنأخذ مثلا بالنيران التى تشتعل حول البيت كله الأن .. بالـ (كورونا) وأطلب من أحدهم فى وسيلة مواصلات أو فى مكان عام مراعاة الاحترازات المطلوبة مثل المسافات الأمنة وارتداء الكمامة ..ستسمع منه كلاما مذهلا يفوق فى إفحامه وحجته كل ما كتبه الجاحظ والمعرى المنفلوطى بل والعقاد شخصيا ..يا هول الهول من هذه الثقة الثقيقة ثقا ثقوقا فى نفسه وهو يرد عليك ..ترامب مين مقارنة به ؟ سيحدثك عن فلسفة الحياة والقدر والانطلاق الطليق فى بهو الدنيا فى مواجهة كل الأخطار التى تحيط به من جنبات الكواكب والمجرات ..لأنه يعتمد على الله ..أما أنت فكافر كبير.
يقولون أن هناك علاقة طردية بين الجهل والثقة .. كلما زاد الجهل كلما زادت الثقة والعكس صحيح .. وإذا أردنا الدقة أكثر نقول(البجاحة)والتى هى عكس الحياء والتواضع والأدب ..لأن (الثقة ) فى الحقيقة صفة مهمة إنسانيا وسلوكيا ومطلوب توفرها والتدرب عليها .
أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي (1880 -1937م)له جملة مؤلمة يصف فيها زمنه قال: (في مثل هذا العصر يكاد يكون التعريف الصحيح للأفضل من الناس: أنه الأقل سفالة).. 
الرافعى قال ذلك فى القرن الماضى وليس فى 2020م.!!!