الجمعة 26 أبريل 2024
توقيت مصر 23:03 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

وطواط الغاب

لم يعد لدى أبو الروس ما يخاف عليه، انتبه لصورة وجهه في المرآة تبدو لكائن لايعرفه، لم يحرث المشط شعره الذي ابيض، سرت أخاديد التجاعيد كما لو أنها بقايا نهر أصابه الموات، التفت ناحية الباب وأخذ يتحسب لوقع خطواته؛  لكم يتمنى أن يغادر هذا البيت!
 دارت في ذهنه ألف صورة لحياة قضاها فيه، يوم وعى الدنيا وجد ذلك الرجل الذي ارتحل مؤخرا إلى لقاء ربه، لم يشعر ناحيته بألفة، دائما ما ماكان يضربه، يحاول أن يخنقه، كل كلامه إليه أوامر؛ حتى المرأة التي  تحتل الحجرة المقابلة لايدري من تكون؛ أهي أمه؟
سؤال وراء آخر لم يجد إجابة لواحد منها، سمعهم يقولون: لقيط!
رغم أنها تحتفظ بورقة فقدت نضارتها؛ وثيقة من مأذون الكفر؛ زوجة لهذا القاسي!
لم يكن يدري أن تلك الكلمة ستغدو وصمة عاره الأبدي؛ حين سأل ذلك الرجل ذات مرة عن معناها؛ أشاح بوجهه عنه؛ ضرب الأرض بعصاه ثم هب غاضبا، أشار ناحية الأرض السبخة حيث تلة تحوطها أعواد الغاب والبوص، يتذكر أنهم عايروه بهذا اللقب مرات، حين اكتمل جسده، تحسس أعضاءه، هاله أن واحدا منها يغدو في ليالي الضرام أكثر لهيبا، دخل عليه ذلك الرجل وهو نائم، هوى عليه بعصاه كاد يخنقه، بدت الدنيا كئيبة في وجهه، كانت فتاته تداعب أشواقه منذ لحظات؛ تتراقص أمامه وتتثنى، حاول أن يقبض على يديها، يعتصر نهديها، كاد الظمأ يقتله، اقترب منها توشك أن تكون بين يديه، هوى بالعصا على جسده المثقل بذلك اللقب، لم يكره في حياته إلا النهار، ينتظر الليل ليراها في غفلة منه وكم فيه من أوهام للعاشقين!
 يرسم لها ألف صورة في ذاكرة متهمة بالتنكر لكل ما حوله، تمنى لو أنه واحد من هؤلاء الذين يتعهدهم آباؤهم بالحب.
 الآن ينزوي وحيدا في ذلك البيت وراء تلة الغاب، ثيابه البالية تظهر حطام رجل، شعر صدره يكاد يغطي سرته، تخوف الأمهات صغيراتها من ذلك الوحش المتربص بهن، يعتاش على البقايا، يغدو كائنا ليليا حتى صار يعرف بأبو الروس وطواط الغاب، ما أفلح البشر في شيء إلا في تنمر بعضهم على بعض؛ يمدون أرجلهم في الخلاء ويتقلبون تحت شمس الضحى؛ يلوكون السخافات وقد رتع الدود في أجسادهم.
يخرج أبو الروس رجله من عتبة الباب، يعيدها مرة ثانية، أين يمضي؟
رغم قسوة الرجل الذي ارتحل إلا أنه لم يطرده، كان يهبه حبات الفول وبضعة أرغفة، آه لو حنى عليه مرة-يحدث نفسه- لم تكن له جناية، فالصغار ثمرة الآباء، اشتهى ثوب العيد كما الأطفال؛ أن يجري معهم ويصطاد العصافير، يلهو فلا يصده متنكر.
 لكنه أعرج؛ ذابل الجسد، لن يسمحوا له بأن يلعب معهم، ثوبه ممزق يظهر الخفي، تتندر عليه البنات، ينبح خلفه الكلب الأزعر، ليست لديه نقود ليشتري الحلوى، تطرده الأمهات؛ خشية أن يصيب صغارها بالحرب، يلقي بنفسه في النهر، يخرج وقد احمر جسده؛ لقد حكه بالحجر الرابض فيه، سرعان ما ينتدر عليه الآخرون؛ فالكلب الأزعر أمسك بخرقة ثوبه وجرى بها بعيدا، يبكي مرة وأخرى يسير عاريا، يشوي الرجل القاسي ظهره بالعصا، تأخذه المرأة التي توجد في البيت وتحنو عليه، ينهمر الدمع المنكسر من عينيها.
تود لو تبوح بسرها. لقد جاءت به من ذلك القاسي القلب؛ فالغجر متهمون بالسوء، مطاردون حيث كانوا.
لكنهم أناس كما الآخرون؛ أليس من حقهم بيوت يسكنونها؛ أهازيج يترنمون بها، أشواق تلتهب بها قلوبهم.
تكبر رأسه كما لو أنها تعانده، يعجز جسده النحيل عن حملها، احتاروا في لقبه إلا أنهم اتفقوا أن يكون أبو الروس، يتحسسه فيشعر بضخامته، المرآة التى تآكلت جوانبها لاتحيط به، يبتسم في بلاهة، يشعر بالزهو فهو يمتلك رأسا كبيرا وإن كانت تسكنه الوساوس.
ارتد إلى الخلف وانزوى في ركن حجرته الباهتة الطلاء؛ بكى الرجل الذي ارتحل؛ على أية حال كان يشعر بالأمان، حين كان الآخرون يتهددونه يلجأ إليه، صار يتيما؛ ذلك عجز تضاعفت به محنته، ينبح الكلب الأزعر تحت النافذة يتداخل جسده!