الأربعاء، 03-02-2021
01:25 ص
حاول كثير من
المصلحين أن يقفوا على أسباب
التراجع الحضاري للأمة الإسلامية في العقود والقرون الأخيرة ، لكنهم كانوا
أسرى لأيدلوجياتهم الخاصة ، فأخذ كل فريق يكيل الاتهام للفريق الآخر ، ويعزو أسباب
التراجع الحضاري للأفكار
المذهبية و الأيدلوجية التي يعتنقها كلا الطرفين. ولذلك لم يكن مستغربا أن يخرج علينا قاسم أمين(1863- 1908م) في بدايات القرن
العشرين بكتابيه تحرير المرأة(1899)والمرأة الجديدة (1901)، وهما كتابان أيدلوجيان بامتياز ، لا يبحثان في أسباب الظاهرة و تحليلها ، والوصول إلى نتائج منطقية ، بل هو اختزال لقضية معقدة ، وتبسيطها في عملية شكلية (الحجاب)، و كأن التقدم العملي و الحضاري يتوقف على زي النساء، وهذا يخالف كل ما توصل إليه علماء الاجتماع في هذا الشأن، فالتقدم الحضاري يخضع لشروط وسياقات أخرى مغايرة ، وقد ساير قاسم أمين في تلك الهوجة ، كل من كان لديه عقده النفسية الخاصة تجاه الدين نفسه. ولذلك لم يكن مستغربا أن يهاجم كثير من الكتاب كسلامة موسى و لويس عوض اللغة العربية؛ بدعوى أنها جزء من منظومة التخلف، وكان واضحا أن ذلك الهجوم لم يكن موضوعيا بأي حال، بل كان مجرد تنفيس عن تعصب وكراهية للدين الذي تعتبر اللغة الفصحى أحد مظاهره الاساسية. و من ناحية أخرى فإن فريق المحافظين وقع في الأخطاء الأيدلوجية ذاتها، واتهم الفريق الآخر بالدعوة إلى الانسلاخ و التحرر من الأعراف و التقاليد ومن الإرث الديني ، و أن العكس من وجهة نظرهم هو الصحيح ، فهم يرون أن الابتعاد عن الدين هو سبب هذا التخلف الذي تعاني منه الأمة. وفي حقيقة الأمر فإن الدين - أي دين – ليس طرفا في معادلة التقدم العلمي، وأن الذين زجوا بالدين في معركة السؤال الحضاري كانوا عاطفيين أكثر من اللازم ، فالعاطفة العمياء، عاطفة الحب أو الكراهية للدين كانت هي المحرك والدافع الذي كان يسوق الأمة في تلك المعركة حتى ارتطمت الرأس بالحائط ، ولا زلنا حتى الآن نكرر ذلك الخطأ حتى صدق فينا قول الشاعر،
ما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.
لكنني أعتقد أن حالة (اليقين المريح) لدى الطرفين هي التي أدت إلى ذلك المشهد البائس، (اليقين المريح) الذي يقيد التفكير ويعوقه عن التطور ، ويجعل المرء أسيرا لمعتقده القديم، فلا يملك من الجرأة رصيدا يؤهله للمساءلة. اليقين المريح الذي يجعل الثقة بما تركه الأقدمون مسلمة من المسلمات المنطقية ، وهو ما ألمح إليه الاديب و المفكر الفرنسي أندريه جيد في مراسلاته مع طه حسين، متهما القرآن بأنه لا يحرض على البحث|، وهي تهمة غير صحيحة، فالقرآن رفض فكرة التقليد وحاربها، وطالب بالنظر والبحث في كل العلوم الكونية، لكن الأزمة تكمن في العقل العربي و المسلم الذي توقف عند ما أنتجه السلف، وربما لهذا السبب قال الجاحظ عبارته الشهيرة : "من قال كم ترك الأول للآخر فهو لا يفلح." وهي العبارة التي استند إليها ابن مضاء القرطبي(1116-1196م) في تمرده على سيبويه و على النحاة في نظرية العامل حتى خرج بكتاب " الرد على النحاة". وعلى الرغم من أن ابن مضاء لم يكن محقا في كثير من القضايا التي طرحها ، بل نستطيع أن نجزم أنه أساء فهم بعض تلك القضايا ، وبنى على تلك الإساءة حتى خرج علينا بالكثير من الأغاليط ، فإن ابن مضاء ، ومن قبله الجاحظ ، وغيرهما من العلماء ، قد وضعا أيديهما على مكمن الداء في العقل العربي ، وهو تقديس كل ما قيل حتى لا يمكن الفكاك منه . و تحسب لابن مضاء تلك الشجاعة التي عبر عنها في مقدمته عن منهج المقلدين للسلف دون مساءلة ، وأنهم يتربصون بكل محاولة تجديدية متهمين من يجرؤ بالخروج عن ذلك النسق بأنه " أخمل من بقة في شقة" ، وأنه "أخفى من تبنة في لبنة". إن الدعاء بأنه " ما ترك الأول للآخر شيئا " هي أضر ما أصاب العقل العربي خلال عدة قرون. وفي المقابل ، فإننا نجد أن أحد الركائز الفلسفية في الفكر الغربي هي فكرة الديالكتيك، وهو الجدل المستمر بين الأفكار كما طرحها هيجل وغيره ، فالأطروحة تقابلها أطروحة أخرى تعارضها وتهذبها لتنتج أطروحة ثالثة ، ولهذا فإننا نجد أن ما يميز العقل الغربي هو وجود مدارس ومذاهب مختلفة في كل الحقول المعرفية من فلسفة وأدب وفن ، وحتى النظريات العلمية، فلم يتوقف العقل الغربي عن كلاسيكية نيوتن في عرضه للجاذبية بل حاول أن يطور منها حتى قدم أينشتاين نظريته في النسبية الخاصة و العامة، وكذلك الحال في تصور شكل الذرة عند راذرفورد ثم بور ثم النظرية الحديثة، وهكذا في سائر العلوم. ,و إن لم يقم العقل العربي بثورة المساءلة للإرث العلمي الذي تركه السلف ، وتطويره و الإضافة إليه ، فسوف يظل في منفى التاريخ وسراديبه مكتفيا بدور المتفرج كما هو حاصل الآن.