ما قلته مجازا على لسان نجيب باشا
محفوظ (أتيت ولكنى لم اصل) قصدت به فى الحقيقة الإشارة الى تيار النهضة الشامل الذى تكون فى بدايات القرن العشرين وخرج منه عباقرة حقيقين فى كل مجالات العطاء العلمى والفكرى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى.. ليس هذا فقط بل إن الوحدة القومية كانت قد سرت فى لحم ودم وعقل وقلب المصريين كلهم اجمعين ..كل هذا أتى ووقف على باب الزمن يطرق باب مصر ..أتى بالفعل .. وكاد أن يصل ..لكنه لم يصل !!؟؟.
وأعتقد أنه لا مجال للجدل حول هذا التوصيف .. فبطلنا فى هذا المقال كان هو زميل عمره على باشا ابراهيم يزلزلون
الكلية الملكية البريطانية حين تُذكر أسماؤهم .. وكان خريج طب القصر العينى وقتها علامة مسجلة فى الكفاءة المهنية فى كل الدنيا ..
محفوظ باشا كان قبطيا ولا تكاد تجد فى سيرة حياته أى تأثير استثنائى لذلك بل إن أغلب أصدقاؤه وتقريبا كل مرضاه مسلمين وأنظر إلى لغته
العربية وفصاحته وحفظه للشعرالقديم والحديث.. تأمل الأن تعمد بعض التيارات القبطية أستخدام العامية فى الكتابة على مواقعها ..تجد ذلك بوضوح وتحدى وتعمد فى رسالة استنكار لعروبتها وحضارتها و قد يكون ذلك رد فعل عكسى للتيارت الإسلامية.. الحضارة
العربية ليست ملكا لتيار أو فصيل .. لقد شارك
المسيحيون فى تأسيسها يدا بيد مع
المسلمين ..
عبقرية
محفوظ وجيله من العظماء فى الطب .. تدعونا إنصافا أن نتحدث عنها فى العلوم .. أذكر بملء فمك أسماء مثل الدكاترة والفطاحل مصطفى مشرفة و
سميرة موسى وأحمد زكى..ألخ وفى الفكر ..أذكر بملء فمك العقاد وطه حسين والمنفلوطى والرافعى ..ألخ وفى
السياسة والحكم سعد زغلول والنحاس ومكرم عبيد وماهر وعبد الرحمن عزام وعزيز المصرى ..الخ .. حتى فى
العلوم الدينية ستجد المراغى وشلتوت وطنطاوى جوهرى وشاكر وستجد متى المسكين والبابا كيرلس .
ما الذى منع هذا الخط المتصاعد أن يكف عن التصاعد ثم لا يلبث أن ينكسر وينتكس وينعكس الى ما تحت خط الحياة ...؟؟
****
يحكى لنا
محفوظ فى مذكراته(حياة طبيب) أنه كان هو وعلى باشا إبراهيم أعضاء فى مجلس مدرسة الطب (مثل مجلس الكلية الأن) وباقى أعضاؤه كانوا من أساتذة الطب الإنجليز وكانت هناك وظيفة شاغرة لأستاذ بكتريولوجيا .. وعرض رئيس المجلس إسم طبيب رشحه اللورد(ادمونداللنبى) المندوب السامى البريطانى فى مصر وصاحب العبارة الشهيرة( الأن انتهت الحروب الصليبية) حين احتل جيشه القدس فى يونيو1917م .
فاعترض د/
محفوظ وقال لابد من فحص كل الطلبات المتقدمة الى الوظيفة واختيار الأفضل منها ..وكان قد سبق له نفس الموقف فى وظيفة أخرى لكن هذه المرة التوصية قادمة قدوما قديما من(قداسة)اللورد اللنبى.. فهدده رئيس المجلس بتدوين إعتراضه فى محضر الجلسة فقال له
محفوظ : أوافق على تدوينه ..وتم تنفيذ رأى
محفوظ وأختاروا أستاذا أخر غير الموصى به ..هل انتهت القصة وعبرتها إلى هنا ..؟ لا لم تنتهى ..لماذا ؟ لأن القاضى الجرجانى كان قد قال ل
محفوظ من 900 عاما : لو أن أهل العلم صانوه صانهم **ولو عظموه في النفوس لعظما .. ولأن
محفوظ عالم ومثقف ويعرف قدر نفسه وعلمه فقد كان .. وإذا باللورد اللنبى يقيم حفل عشاء بمناسبة تعيينه فى منصبه الجديد مندوبا ساميا بعد تقاعده من الجيش .. وكان د/
محفوظ من المدعوين ويرحب به وينقل له شكر أحد السفراء الإنجليز على علاج
محفوظ لزوجته ويقول له :لقد عرفت بموقفك من تعيين أستاذ البكتريولوجيا .. وأؤكد لك أنه لو تصرف كل مصرى فى اختصاصه كما تصرفت أنت لما بقيت بريطانيا فى مصر 24 ساعة . لكن هذا لن يستمر وسيأتى الأذى والضر..ليس من فخامة اللورد اللنبى ..ولكن من فخامات أخرى..وستتحول الجامعة الى مرتع للتلاعبات والتدخلات والتحايلات ..ويحق عليهم البيت الثانى من شعر الجرجانى .. ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا **محياه بالأطماع حتى تجهما..
****
محفوظ وجيله العظام لم يكونوا من أصحاب(الأطماع) ..كانوا بشر لهم حياتهم وطموحاتهم .. لكنهم كانوا(أسوياء) وصالحين و قدموا رحيق حياتهم ونجاحهم زلالا صافيا لوطنهم وأمتهم والناس التى وثقت بهم وأحبوها ولم يخذلوها.. سيحكى لنا
محفوظ أنه أجل سفره الأول إلى أوروبا أسبوعين (1908م) لأن أمرأة جاءت من الصعيد فى أربعة أيام ووجدوها ملقاة على باب القصر العينى وحملها البواب _وكان طيب القلب.. هكذا وصفه طيب القلب
محفوظ باشا_ وأدخلوها إليه وكان الأطباء فى الصعيد قد أخبروها أن حالتها لا يستطيع علاجها إلا(
محفوظ )فى القصر العينى بعد أربع جراحات فاشلة ,, ويقترح عليه زملاؤه أن يترك المريضة فى المستشفى تأكل وتشرب حتى يعود من أوروبا .. فيقول لهم( لا تطاوعنى نفسى ) ويجرى لها الجراحة وتنجح وتقول السيدة بعد العملية للحكيمات: مش تدلونى على الحكيم اللى عمل لى العملية علشان أقوله (كتر خيرك) فقالوا لها ما هو كل يوم بيمر عليك ..فتقول لهم الشاب اللى شنبه لسه ما خطش؟ وحين يمر عليها تشكره ..وتسأله عن إسم أمه فيقول لها(مريم) فتقول له روح يا نجيب يا بن مريم ربنا يكافئك عنى.. ح ادعى لك دعوة مستجابة..فلم يملك نفسه وتدمع عيناه باكيا أمامها ..
ويحكى أنه كان فى (مركز الصف لولادة)متعسرة وقت الفيضان وعندعودته حدث قطع فى جسر النيل وتطلب الأمر تكديس حجارة لسد القطع فوق الجسر وتعذر مرور السيارة ووقفت حائرا فيأتى الفلاحون ويحملون السيارة على أكتافهم ويجتازوا بها فوق الحجارة المكدسة على الطريق ورفضوا أن يقبلوا على عملهم أى مقابل .
من قتل الشجاعة والمروءة فى الناس ..؟؟ فى عام 1966م انتقد الزعيم إدارة مستشفى القصر العينى وقارنه بإدارة قناة السويس..فقام الدكتور رشوان فهمى نقيب الأطباء وقتها وأستاذ العيون بطب اسكندرية بالدفاع عن إدارة القصر العينى وقال : لو كان للقصر العينى ميزانية قناة السويس لأصبح القصر العينى مثالا يحتذى به فى العلاج.. ولو كان لقناة السويس ميزانية القصر العينى لتوقفت الملاحة بالقناة إلى الأبد.. بعد هذه الملاحظة الضرورية المٌسكته من نقيب الاطباء صدر قرار جمهورى بفصل الرجل من الاتحاد الاشتراكى ومن كلية الطب وجامعة الإسكندرية ومن منصب النقيب ووضعه هو وأسرته تحت الحراسة و قطع خط التليفون عنه.. وكان زملاؤه الأطباء يرسلون له مظاريف بها مبالغ مالية من تحت عقب الباب وتم اعتقال بعضهم لهذا السبب . من قتل الشجاعة و المرؤة فى الناس.. ؟؟
****
(.. إن دماثة أخلاقة ومتانتها كانتا من أهم الأسباب التى أدت إلى رفع أسم وسمعة كلية الطب المصرية إلى المستوى العالمى الذى بلغته فى السنين الأخيرة.. وأريد أن ألفت النظر بصفة خاصة إلى هدوئه الطبيعى وتواضعه وهربه من الشهرة.. وأن ل
محفوظ وقفات مشرفة فى الدفاع عن الحق فى أوقات كانت فيها كلية الطب المصرية تجتاز ظروفا حرجة جدا..وكانت تلك الوقفات من
محفوظ من أهم العوامل التى أبقت على المدرسة سمعتها الطيبة ..) كانت هذه كلمة رئيس
الكلية الملكية البريطانية فى حفل تكريم أقيم له فى لندن سنة 1934م. وفى عام 1947 تمنحه الجمعية الملكية الطبية البريطانية الزمالة الفخرية فى نفس الحفل الذى مُنح فيه نفس اللقب لـ (الكسندر فلمنج) مكتشف البنسلين.
ولكن دعونا نقف عند جملة (دماثة أخلاقة ومتانتها) ..(وتواضعه وهربه من الشهرة ).. ولا أدرى من أين عرف رئيس
الكلية الملكية (متانة أخلاقه) فقد كان بالفعل نموذحا أخلاقيا على المستوى الشخصى كرجل .. وكان دائما ما يذكر نصيحة أمه له فى صباه( إياك يا نجيب حين تكبر أن تمشى فى الطريق المعوج .. وحاسب من الهفوة الأولى وأعلم أن الفارق بين الطريق المستقيم والطريق المعوج شعرة لا تكاد ترى فى أول الامر ..).
وأذكر هنا نصيحة الإمام مالك للشافعى وهو صبى بعد يجلس فى مجلس علمه ..فيقول له( يابنى.. سيكون لك شأن من الشأن فاتقى الله واجتنب المعاصى).. والحقيقة أن طهارة الرجل الأخلاقية وعفافه تكون تاج على رأسه طوال عمره ..ومن أهم أدوات نجاحه فى الحياة ..وهو ما أستحق أن يوصف به
محفوظ باشا فى
الكلية الملكية بلندن !! كان هذا فى الأربعينيات .. ولم تكن أفكار الوجودية والعلاقات المفتوحة قد تفرشحت هذا التفرشح فى أوروبا ثم العالم كله كما حكى لنا د/ عبد الوهاب المسيرى.
أما هربه من الشهرة فقد كان أحد أشكال هروبه من السلطة و
السياسة .. فالرجل كان صاحب نظر ثاقب وكان له فى طريق حياته..أهداف محددة ولا يعنيه غيرها ..وبالتالى فقد جعل بينه وبين السلطة مسافة محددة وحرص عليها ..ولم تشأ أى سلطه أن تعكر عليه صفو اختياره..ربما لأنهم كانوا يحتاجونه فى أخص خصوصياتهم فقد كان طبيب العائلة الملكية ومن جاء بعدها ..
عاش دكتور نجيب باشا
محفوظ 92 عاما ..شهد فيها اليوم القاتم العاصف واليوم الباسم المشرق كما يقول.. ويضيف : علمت أن حياة المرء كالحياة نفسها .. يتعاقب عليها الليل والنهار..والظلام والاشراق .. ولأن الانسان(كل لا يتجزأ) فكما كان طبيبا كبيرا وعالما ومعلما فذا .. فلنا أن نتوقع أنه كان زوجا محبا وأبا عظيما وصديقا كريما وفيا ..وقد كان كذلك بالفعل .