الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 12:03 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

لعبة السرد

كثيرون كتبوا إبداعا يفوق الوصف؛ رسموا لوحات جميلة جاءت صورها مكتملة البنيان رائعة الطلاء؛ منهم الروائيون وكتاب السير وآخرون  نقدوا أو شاغبوا بأقلامهم؛ لكنها لعبة نزقة قلما فاز في شوطها الأخير أحد؛ فمن ألف فقد استهدف؛ الكتابة والسرد قرينان؛ فلا يمكن للسرد إلا أن يدون وإلا كان حكيا شفاهيا؛ فألف ليلة وليلة وقصص الشطار والعيارين والزير سالم والظاهر بيبرس وست الحسن والجمال وضم إليها مأثورات الأدب الشعبي مما يتناقله الناس في ليالي السمر أو تمضية الوقت من ملل بعيد عن السرد في إتقانه وحبكة صنعته.
يبحث في أدق الحزئيات ويترصدها حتى يظفر بها؛ في تثني أنثى أو رقصة طائر بل نباح كلب ومواء هر؛ عبث صبي في أوراقه حتى ثائر يكتب عن رجال في الشمس؛ عوالم العزلة المائة وخريف الجنرال ومتاهة الأفعى وزقاق المدق واسمي أحمر ولقيطة استانبول والقاهرة الجديدة سرد يحتفي بمدن الملح وعوالم الدهشة والغرابة.
السرد دليل مدنية وقواعد منظمة؛ يماشي التقنية في خط سيرها، أما الشفاهية فهي مخزون حكائي يتسم بالغرائبية ولاينمط تحت إطار ولايخضع إلا لطريقة صاحبه في القول.
 السرد مراقصة الحروف وملاعبة أسنة الأقلام حتى يأتي بنيانه تماما على كل ما أحسن؛ لذا كان أبدع الكتاب من أتى بجديد وإن زاوج بالقديم وبالجديد، تلك لعبة خطرة تستدعي الحرص واليقظة وإلا جاء النسيج متباعدة لحمته عن سداه؛ فالكلمات والجمل آخذ بعضها بعناق بعض على حد قول عبدالقاهر الجرجاني؛ بالفعل" إن من البيان لسحرا" قد يعجز الخطيب لسانه من عي أو من حصر، فإذا نطق بانت خطئيته أما السارد فلعبته تلك قد يمحو ويثبت تجويدا ومراجعة؛ يعانق عوالم بعيدة ويرسم خيوطا متقاطعة.
الشفاهية" الحكي" ثراث شعبي والسرد ممتلك خاص؛ تستطيع أن تقول إن شخصيات السارد أبناؤه وأحباؤه؛ ينقد بها مايراه أو يحلم معها بعالم مغاير.
 ولتلك اللعبة قواعد تحكم مسار أحداثها؛ مراعاة المقدس وتجنب الأسلاك الشائكة؛ بعض الساردين يخترق أصول اللعب فيملح بالجنس أو السياسة أو الدين؛ تكمن براعته في معالجة فنه في مغافلة الرقيب؛ يوظف الرمز وهل يكون السرد إلا هذا؟
لكل سارد بعد سمته الخاص ورمزه الذي يتكيء عليه؛ أي لعبة تلك التي صودرت مادتها وقادت بعض أربابها إلى الأماكن المعتمة!
كل ما تقع عليه العين أو تلمسه اليد بل مايجول في الخاطر يصلح أن يكون سردا شرط فنية المتابعة.
حين نظرت في الأرض وجدت الغربان تبحث في الأرض؛ يجري وراءها كلبنا الأبيض؛ ستة فئران في ظلمة العشاء، وقف القط كامنا لها؛ تصعد وتقفز حتى أنشب فيها الجرو أنيابه، غريزة البقاء تماثلها موهبة السرد.
ألا تصلح هذه لموضوع ما؟
امرأة تستعطف المارة على رضيع لايكبر؛ هل هو وليدها أم لعلها اقتنصته من بين ثديي أمه؛ ربما ابتاعته من فتاة ليل؛ يخرج- كما يسرد القلم- بشرا غير سوي!
وطرافة اللعبة أنها لاتعاد مرة ثانية؛ فروائع الأعمال صارت إلى المحال؛ يصعب تصويرها؛ فالتناص هنا باهت أشبه بفعل اللصوص؛ نختزن أبجدية آبائنا فندون بها؛ كل ما تشاهده من أوراق في معارض الكتاب أو ما تخرجه المطابع لعب بالحروف وخلط بينها في براعة.
السرد لعبة تحتفي بالمكر؛ وتتدثر بالدهاء، حين ذاك يكون أروع السرد أدقه، تحتاج أن تقف طويلا أمام بلاغة الجاحظ؛ إذا كان المتنبي يهندس شعره فإنه أي الجاحظ يراقص حروفه في معابثة محببة فيكتب عن العميان والمجذومين وأهل البرص والباعة وأصحاب الحوانيت؛ سطر ولم نعرفه خطيبا يضارع قس بن ساعدة؛ لكل فنه وطريقته في أداء ما امتاز به.
صنعة تحتاج براعة وقراءة واستذكارا؛ المتعجلون كتابة أشبه بلصوص تحتوش كل ما وصل إلى أياديها؛ ثمة قراء نهمون غير أن الأجدى هم من يتريثون فيفسرون ما بين السطور وماوراء الحجب!
غير أن السرد الذي يتوارى كثيرا مرهق معنت؛ لكل عصر مادته المكتوبة في زمن التبسط والاسترخاء تكون الجمل الطويلة ذات الكنايات التقليدية؛ ثمت انظر عصرنا وتقلباته وتغيراته تجد سرده قصير الجمل تغلب فيه الرمزية.
إنه لايعنى بالتجويد في عمومه؛ ثقافة الصحف وقراء صفحات التواصل الاجتماعي لاتصنع عقادا ولامازنيا.