الأحد، 10-01-2021
12:06 م
تعانى(
الحقيقة) لدينا هذه الفترة معاناة أليمة من نمط من
الإعلاميين برزوا في الأونة الأخيرة في
الفضائيات العربية أو الغربية الموجهة إلى العالم العربى عٌرفت باسم(المثقف
الاعلامى) .. الذى يَرى فى
برامج المنوعات (
التوك شو) وسيلة لتحقيق شهرته سريعا سريعا.. وأنا شخصيا وإلى وقت قريب لم أكن أتخيل أن الشهرة أحد أشرس الطموحات
الجائحة عند بعض الناس.. وأذكر أن الأستاذ الراحل/لويس جريس(1928-2018م) قال لى أن أ/مفيد فوزى كان يلح عليه كثيرا في فكرة تقديم برنامج تلفزيونى ويقول له أنت أقدم منى في
الصحافة ولكنى أنا أشهر منك ..وكان الرجل يرفض ليس لأن أ/ مفيد نموذج سىء لما يدعوه إليه ..ولكن وهو الأهم لأن الرجل كان هادىء الطباع في كل مجالات حياته وحتى عمله وطموحه ..ويكفى أن نعلم عمق الصداقة التى كانت بينه وبين الراحل الكبير د/ مصطفى محمود(1921 -2009م) كانوا أصدقاء عمر بالمعنى الحرفى رغم أن الأول مسيحي والثانى ممن أسسوا ورسخوا للإحياء والإصلاح الإسلامي.. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الشهرة الإعلامية لبرنامج (العلم والإيمان) قامت على اسم الرجل لا العكس . د/عبد الوهاب المسيرى تحدث أيضا في مذكراته (البذور والجذور والثمار)محذرا من الذئاب الثلاثة الشهيرة(المال/الشهرة/المعرفة)و التى يمكن ان تطارد الإنسان وسعيه في الحياة حتى الموت..ثم فجأة تحدث المفاجأة ! يموت ..ولا أحد يعلم عنه بعدها شيئا . والمعنى هنا واضح أنه مهما يكن ما حصلت عليه منها فلا معنى لها .. فالموت يجمع كل هذا ويضعه في(سلة الفناء)..ناهيك عن أن الموت بوابة لحياة أخرى ليس فيها مال ولا شهرة ولا سلطة ولا جاه.
****
الحاصل أنه تكونت لدينا (شلة)من فئة ما يعرف بـ ( المثقف الإعلامي) أصبحت لها حضور وجمهور.. والجمهور أصبح بعد انتشار
الفضائيات رهان كبير من رهانات كل شىء تقريبا..الانتخابات والإعلانات والإشاعات..الخ..في مجتمع بات شديد الارتباك والتردد.. المفكر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي(93 عاما)يقول عن هذه الظاهرة: أن هناك حرص على تشجيع الناس على استحسان التفاهة والرداءة و تشجيعهم على أن يجدوا أنه من(الرائع )أن يكونوا أغبياء وهمج وجهلة.. ويضيف قائلا: نحن إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو رد فعل مجرد من الحس النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها رد الفعل أو إجابة الطفل ذي الاثني عشر عاما.
احدى
الفضائيات ظهر بها(مثقف إعلامي) ذهبت حساباته الى أن الهجوم على(التاريخ الحضارى) للأمة سيكون سببا وجيها وجاهة وجوهه لأن يفتح له الحضن أحضانه..وهى حالة تلاقت عندها مصالح كثيرة أقلها فى القيمة مصلحة صاحبنا الذى تخصص فى سب الدين وكل ما أنتجه هذا الدين من حضارة للإنسانية..وقد رأينا قبلا حين حاول عدد من الفنانين النابهين إنتاج مسلسل عن(خالد بن الوليد) كم هاجمهم لدرجة إتهامهم بأنهم يعملون لحساب داعش ..أحد الأصدقاء أخبرني أنه الأن لا شغل له إلا نفى(حقيقة)أن الغرب يهاجم الإسلام.!! ويستخدم كل أدوات التضليل المبرمج بدأ من الكذب البواح على التاريخ المكتوب إلى(الشرشحة)والتشويح بيده وأكتافه فى حركات راقصة من شدة انفعاله الفعيل على هذا الإسلام وهؤلاء المسلمون الذين يدعون كذبا أن الغرب يستهدفهم ويستهدف حضارتهم.. ولا كأن هناك شيء اسمه(الحروب الصليبية )بدأت عام 1059م واستمرت و تغيرت وتحورت و تتطورت و حافظت على عدائها التاريخي للإسلام.. حالة الغرب مع الإسلام كتب فيها كتاب غربيون ومسلمون كتابات كثيرة تؤكدها وتفسرها وتقدم ما يعمق الوعى بها والحذر منها.. وأيضا إخراجها من ضيق العداء والخصومة المعلنة والمكتومة الى سعة الإنسانية.. وهى قد تكتسى بألف ثوب ألا أنها حالة كراهية وعداء تاريخى واستراتيجي كبير لا شك فى ذلك.. والدكتور إدوارد سعيد(1938 – 2003م)له مؤلف ضخم فى ذلك بعنوان(الاستشراق)صدر عام 1978م و استقبله العالم كله باهتمام وتقدير كبير.. تناول فيه كيف تكونت تلك المكتبة الصلبة من كراهية الغرب للإسلام فى العقل الغربى. واصفا موقف الغرب من العالم الاسلامى بأنه بدائي /لاعقلاني/ عنيف /متطرف/ واستبدادي.
****
ما الذى يجعل مثقف يكره ذاته التاريخية والحضارية ويهاجمها إلى هذا الحد ؟ (يقولون لو رأيتم انفعاله وصياحه فى القناة الفضائية !..غير ممكن).. الطب يحدثنا عن أنه أحيانا تهاجم خلايا الجسد بعضها بعضا فيما يعرف بأمراض (المناعة).. أم أن الموضوع أبسط من ذلك كثيرا ولاتعدوا المسألة مجرد نموذج لحالة من حالات (المثقفون المرتزقة) التى تحدث عنها الكاتب الفرنسى الشهير د/باسكال بونيفاس في كتابه الذى هز الرأى العام في أوروبا والعالم (المثقفون الزائفون) والذى قسم فيه د/باسكال هذا النوع من المثقفين إلى (مزيفين) و(مرتزقة)..والمزيفون كما يقول الكاتب هم الذين يؤمنون بقضية ما..لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها ونصرتها.. أما المرتزقة _وهم الأسوأ _ فهم لا يؤمنون بغير مصالحهم ويتظاهرون فقط بالانتساب لقضية ما..ليس من باب القناعة بها ولكن لارتفاع مردودها عليهم.. فيكسبون من ورائها.. ببساطة شديدة.
هكذا تحدث عمنا باسكال ويبدو أن تصنيف (صاحبنا)سيكون من النوع الثانى..(المرتزقة).. وأتصور أن هذه(الشلة) كلها والتى تخصصت في الهجوم على(الإسلام)برا وبحرا وجوا لديهم جيوب نفسية عميقة مع ماضيهم الشخصى . وأتذكر أن المهندس /أسامة الشيخ الرائد الإعلامي الكبير حكى لنا عن قصة الشاب الذى ظهر فجأة وبدأ بالهجوم المبكر على (صحيح البخارى) وعن كم المآسي النفسية والاجتماعية التى جاء منها هذا الشاب ..
****
د/ باسكال يقول عن الإعلام المزيف بوجه عام فى مقدمة كتابه الهام (شغلتني فكرة هذا الكتاب منذ وقت طويل فكم من مرة دهشت وانتابني شعور بالغضب أو الضيق عندما كنت اكتشف أثناء جدال عام أن خبيراً نطق بكذبة وأن هذه الكذبة قد مرت مرور رسالة في البريد ..لا أتكلم هنا عن خطأ بل عن(كذب متعمد) يتحمل مؤلفة مسؤوليته في هذه الحالة.. فالخبير المدعو لإيضاح الأمور للجمهور هو ببساطه يخون هذا الجمهور ..ويستطرد قائلا: قول
الحقيقة يتطلب مجهوداً كبيراً من البحث والتحري أما الكذب فيحسم الجدل سريعاً ولا يحتاج إلا إلى الحبكة والجرأة..فما أجرأهم وأغلظ وجوههم..تبدو وقاحتهم وانعدام ذمتهم بلا حد وتشكل لهم ورقة رابحة (هكذا قال).. وللمفارقة صاحبنا الذى لا يعرفه د/ باسكال هو بالفعل غليظ الوجة مثل الفرزدق! الشاعرالأموى الشهير الذى سٌمى كذلك لضخامة وجهه وغلظته.. فأخينا هذا ليس مجرد مرتزق فقط ولكنه فرزدقى أيضا..
دعونا نتوسع في دائرة المعنى لنعلم أولا أن د/ باسكال بونيفاس(65 عاما) والذى يعد من أهم المفكرين السياسيين في فرنسا حاليا وله كتب عديدة عن المنطقة العربية والشؤون الفرنسية والعالمية(له كتاب بالغ الأهمية بعنوان : من يجرؤ على نقد إسرائيل ,ترجمه ونشره المركز العربى للدراسات الغربية عام 2008م) وهو مؤسس ورئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس(تأسس عام 1991م)..وقد حقق كتابه (المثقفون الزائفون)مبيعات كبيرة بمجرد نشره ..وترجم إلى العربية ترجمتين أحدهما للكاتبة السورية روزا مخلوف والأخرى جزائرية للدكتور عبد الرحمن مزيان .
***
من أوائل الكتاب الذين تناولوا مشكلة المثقفين فى مجتمعاتهم الأديب والروائى الفرنسى جوليان بيندا(1867-1956م) الذى كتب سنة 1927 م كتابه الشهير(خيانة المثقفين)يتحدث جوليان بيندا عن المثقفين بإعتبارهم في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين ويشدد على دورهم فى فضح وتعرية الفساد والباطل والكذب ومناصرة الضعفاء _زكاة عن مواهبهم بمفهومنا_ وهو يسحب وينفى صفة(مثقف)عن كل من يتردد فى المجاهرة بالحق..ومنذ صدور ذاك الكتاب صار مصطلح خيانة المثقفين يرمز للإشارة إلى تخلي المثقفين عن استقامتهم الفكرية وقبولهم بالمغريات .. وهو ما يقودهم للانحياز لمصالحهم على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية .
في حالة(صاحبنا)الذى ينفى بشراسة عداء الغرب للإسلام.. ليس هناك مسؤولية ولا أخلاق ..هناك كذب وجهل وسخف .. هناك شخص يكره نفسه وأمته .