السبت، 14-11-2020
02:17 م
هذا العنوان ليس من قبيل الإثارة الصحفية ، ولا دعوة للتحريض ضد النصوص كما يفعل بعض الغلاة وعاشقو الأضواء ، ولكنه محاولة لقراءة منهجية لتاريخ بعض
القواعد ، ودراسة تأثيرها على تشكيل
العقل العربي و الإسلامي الذي لا نختلف على أنه يمثل الآن ظاهرة استثنائية في خارطة التقدم العلمي و
الحضاري . وعلى الرغم من أنني أوقن أن ثمة عوامل كثيرة أدت إلى هذا التراجع و الجمود ، منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو ثقافي وتشريعي ، فإنني من الرافضين لتحميل
السياسة مسئولية تكلسنا
الحضاري ، لأن
السياسة هي (القشرة ) الخارجية التي تغلف كل المكونات الثقافية الأخرى، و
السياسة هي الجزء الجليدي الذي يطفو على سطح محيط كبير من عوامل التخلف الفكري. وكنت قد قدمت قراءة بنوية حديثة لمنهج أصول الفقه عند الإمام
الشافعي رحمه الله ، وقلت فيها إن منهج
الشافعي الذي يركز على (النص) كان نتيجة طبيعية للنظام السياسي والاجتماعي السائد في عصره ، حيث كانت
الدولة الإسلامية فتية وقوية ، ينطلق فيها
النظام السياسي من مرجعية دينية ورثها عن جيل الصحابة والتابعين ، فكان (النص) القرآني منسجما مع واقعه (وربما) نتيجة لمعطياته ، فالقرآن تحدث عن الجزية مثلا لأنها كانت جزءا من النظام العالمي آنذاك ، ولو لم تكن هناك جزية ، فإنني أزعم أن القرآن لم يكن ليتعرض لها ، وكذلك الحال في مفردات ومصطلحات مثل ملك اليمين ، وتحرير الرقاب وغير ذلك من المفردات التي كانت شائعة حينئذ. في تلك الظروف التي لم يكن فيها (انحراف) ملحوظ بين الخلفية السياسية والخلفية الدينية ، وضع
الشافعي منهجه في أصول الفقه في كتابه الشهير الرسالة، حيث لم يلتفت
الشافعي إلى فكرة البيئة و المكون الثقافي والعرف الاجتماعي ؛ معتبرا ذلك من (
المسلمات) التي ليست في حاجة إلى تقعيد ، فكان منهجه (نصيا ) بنيويا ، منقطع الصلة عن السياق الذي أنشأه. وفي ظل هذه الظروف ولدت أيضا قاعدة (
لا اجتهاد مع النص) ، حتى تقطع الطريق على المذاهب الأخرى التي تستند إلى مفاهيم أخرى كالقياس و المصلحة وغير ذلك من المفاهيم التي ترى في الواقع (نصا ) آخر ينبغي أن يقرأ. لقد كان دافع
الشافعي رحمه الله نبيلا ، وهو صيانة النص من أهواء الاجتهاد غير العلمي . لكن ومع تغير السياق الثقافي و المجتمعي ، ومع تكون مفاهيم عصرية جديدة نتيجة للاحتكاك بالحضارات والثقافات الأخرى ، ازدادت الفجوة بين (النص) و (الواقع) ، ونشأت أنظمة سياسية و عالمية أخرى ، جعلت قاعدة (
لا اجتهاد مع النص) محل تساؤل بل ومحل شك في جدواها الفقهية و التشريعية . وقد جاءت إرهاصات تلك المساءلة مبكرة جدا في عصر الخليفة (الحداثي) عمر بن الخطاب ، الذي أدرك أن النص يمكن ألا يطبق (وربما لا يمكن أن يطبق) في بعض الحالات مثل سهم المؤلفة قلوبهم ، وإقامة حد السرقة في ظروف استثنائية . ودعك من محاولات أهل الحديث و الأصوليين لتضعيف تلك الروايات ، فهي مواقف مضيئة ومعالم واضحة نستدل بها على كيفية التوفيق بين الثوابت و المتغيرات . و مفهوم (النص) عند الأصوليين يختلف عن مفهوم النص عند البلاغيين ، ففي عصرنا الحديث تأثر مفهوم النص بمناهج الأدب المقارن ، فأصبح كل مكتوب نصا ، فهناك النص الشعري و النص القصصي ، والنص الأدبي بمعنى عام ، تأثرا بكلمة text الإنجليزية التي تأثرت بدورها بكلمة texte الفرنسية المشتقة من كلمة textus اللاتينية والتي تعني كلمة نسيج ، ولذلك يكثر استخدام كلمة نسيج محكم في النصوص البلاغية الجيدة ، أما كلمة نص في المفهوم الأصولي ، فهي لا تعني أي نص ، بل هي درجة من درجات (الدلالة) في تصنيف القول أو الكلام ، فهي متأثرة بالجذر العربي الذي يعني العلو و الارتفاع و التميز ، ولذلك يقسم الأصوليون دلالة الكلام إلى : الظاهر و النص المفسر و المحكم. وكان الأحرى أن يقال "لا اجتهاد مع المحكم" ، فهي أعلى درجات الدلالة ، مثل قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، وقوله : وأقيموا الصلاة ، فهي واضحة الدلالة ، ولا يتوقف فهمها أو تطبيقها على مؤثر خارجي ، أما قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون ..حتى يعطوا الجزية عن يد ، فهي تتوقف على مؤثرات خارجية ، فهي ليست محكمة ، بل نص يقبل التطبيق حسب السياق والظرف التاريخي ، وكذلك ملك اليمين . لقد أضرت قاعدة (
لا اجتهاد مع النص) ب
العقل العربي و الإسلامي ، على المستوى الفكري و التطبيقي ، وتسببت في أن تظل الأمة منتظرة على (قارعة العلم) في انتظار ما هو جديد لكي تمارسه بطريقة ببغائية ، بل وجعلت مقولة ( الإسلام صالح لكل زمان ومكان ) مثار سخرية وتهكم من غلاة العلمانيين ، وفي الواقع فإن الإسلام صالح لكل زمان ومكان لأن (النص) القرآني نشأ من خلال التعامل مع واقع ما ونظام عالمي معين ، وهذا النص يدور مع الواقع وجودا وعدما ، فمتى وجد الواقع طبق النص ، ومت عدم الواقع ، يصبح النص مجرد آية للتعبد بالقراءة فقط ، ويصبح يمثل مرحلة تعلم البشرية فكرة التحولات الاجتماعية . لقد ظلم الأصوليون الإسلام بهذا الجمود والتحجر ، وبنشر مقولة غير صحيحة على المستوى الشرعي ، وكان الأولى كما أشرنا من قبل أن تكون (لا اجتهاد مع المحكم ). ومن منبر " المصريون الغراء" أدعو العلماء الكبر وأدعو الأزهر الشريف لمناقشة هذا الأمر مناقشة هادئة، ربما نتجاوز مرحلة الجدل البيزنطي و التآكل الذاتي .