الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 14:04 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

كارثة "لا اجتهاد مع النص"

هذا العنوان ليس من قبيل الإثارة الصحفية ، ولا دعوة للتحريض ضد النصوص كما يفعل بعض الغلاة  وعاشقو الأضواء ، ولكنه محاولة لقراءة  منهجية لتاريخ بعض القواعد ، ودراسة تأثيرها على تشكيل العقل العربي و الإسلامي الذي لا نختلف على أنه  يمثل الآن ظاهرة استثنائية في خارطة التقدم العلمي و الحضاري . وعلى الرغم من أنني أوقن أن ثمة عوامل كثيرة أدت إلى هذا التراجع و الجمود ، منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو ثقافي وتشريعي ، فإنني من الرافضين لتحميل السياسة  مسئولية تكلسنا الحضاري ، لأن السياسة هي (القشرة )  الخارجية التي تغلف كل المكونات الثقافية الأخرى، والسياسة هي  الجزء الجليدي الذي يطفو على سطح محيط كبير من عوامل التخلف الفكري. وكنت قد قدمت قراءة بنوية حديثة لمنهج أصول الفقه عند الإمام الشافعي رحمه الله ، وقلت فيها إن منهج الشافعي الذي يركز على (النص) كان نتيجة طبيعية للنظام السياسي والاجتماعي السائد في عصره ، حيث كانت الدولة الإسلامية فتية وقوية ، ينطلق فيها النظام السياسي من مرجعية دينية ورثها عن جيل الصحابة والتابعين ، فكان (النص)  القرآني منسجما مع واقعه (وربما) نتيجة لمعطياته ، فالقرآن تحدث عن الجزية مثلا لأنها كانت جزءا من النظام العالمي آنذاك ، ولو لم تكن هناك جزية ، فإنني أزعم أن القرآن لم يكن ليتعرض لها ، وكذلك الحال في مفردات ومصطلحات مثل ملك اليمين ، وتحرير الرقاب وغير ذلك من المفردات التي كانت شائعة حينئذ. في تلك الظروف التي لم يكن فيها (انحراف) ملحوظ بين الخلفية السياسية والخلفية الدينية ، وضع الشافعي منهجه في أصول الفقه  في كتابه الشهير الرسالة، حيث لم يلتفت الشافعي إلى فكرة البيئة و المكون الثقافي والعرف الاجتماعي ؛ معتبرا ذلك من (المسلمات) التي ليست في حاجة إلى تقعيد ، فكان منهجه (نصيا ) بنيويا ، منقطع الصلة عن السياق الذي أنشأه. وفي ظل هذه الظروف ولدت أيضا قاعدة (لا اجتهاد مع النص) ، حتى تقطع الطريق على المذاهب الأخرى التي تستند إلى مفاهيم أخرى كالقياس و المصلحة وغير ذلك من المفاهيم التي ترى في الواقع (نصا ) آخر ينبغي أن يقرأ. لقد كان دافع الشافعي رحمه الله نبيلا ، وهو صيانة النص من أهواء الاجتهاد غير العلمي . لكن ومع تغير السياق الثقافي و المجتمعي ، ومع تكون مفاهيم عصرية جديدة نتيجة للاحتكاك بالحضارات والثقافات الأخرى ، ازدادت الفجوة بين (النص) و (الواقع) ، ونشأت أنظمة  سياسية و عالمية أخرى ، جعلت  قاعدة ( لا اجتهاد مع النص) محل تساؤل بل ومحل شك في جدواها الفقهية و التشريعية . وقد جاءت إرهاصات تلك المساءلة مبكرة جدا في عصر الخليفة (الحداثي) عمر بن الخطاب ، الذي أدرك أن النص يمكن ألا يطبق (وربما لا يمكن أن يطبق) في بعض الحالات مثل سهم المؤلفة قلوبهم ، وإقامة حد السرقة في ظروف استثنائية . ودعك من محاولات أهل الحديث و الأصوليين  لتضعيف تلك الروايات ، فهي مواقف  مضيئة ومعالم واضحة نستدل بها على كيفية التوفيق بين الثوابت و المتغيرات . و مفهوم (النص) عند الأصوليين يختلف عن مفهوم النص عند البلاغيين ، ففي عصرنا الحديث تأثر مفهوم النص بمناهج الأدب المقارن ، فأصبح كل مكتوب نصا ، فهناك النص الشعري و النص القصصي ، والنص الأدبي بمعنى عام ، تأثرا بكلمة  text  الإنجليزية التي تأثرت بدورها بكلمة  texte  الفرنسية المشتقة من كلمة textus  اللاتينية والتي تعني كلمة نسيج ، ولذلك يكثر استخدام كلمة نسيج محكم في النصوص البلاغية الجيدة ، أما كلمة نص في المفهوم الأصولي ، فهي لا تعني أي نص ، بل هي درجة من درجات (الدلالة) في تصنيف القول أو الكلام ، فهي متأثرة بالجذر العربي الذي يعني العلو و الارتفاع و التميز ، ولذلك يقسم الأصوليون دلالة الكلام إلى : الظاهر و النص المفسر  و المحكم. وكان الأحرى أن يقال  "لا اجتهاد مع المحكم" ، فهي أعلى درجات الدلالة ، مثل قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، وقوله : وأقيموا الصلاة ، فهي واضحة الدلالة ، ولا يتوقف فهمها أو تطبيقها على مؤثر خارجي ، أما قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون ..حتى يعطوا الجزية عن يد ، فهي تتوقف على مؤثرات خارجية ، فهي ليست محكمة ، بل نص يقبل التطبيق حسب السياق والظرف التاريخي ، وكذلك ملك اليمين . لقد أضرت قاعدة (لا اجتهاد مع النص) بالعقل العربي و الإسلامي ، على المستوى الفكري و التطبيقي ، وتسببت في أن تظل الأمة منتظرة على (قارعة العلم) في انتظار ما هو جديد لكي تمارسه بطريقة ببغائية ، بل وجعلت  مقولة ( الإسلام صالح لكل زمان ومكان ) مثار سخرية وتهكم من غلاة العلمانيين ، وفي الواقع فإن الإسلام صالح لكل زمان ومكان لأن (النص) القرآني نشأ من خلال  التعامل مع واقع ما ونظام عالمي معين ، وهذا النص يدور مع الواقع وجودا وعدما ، فمتى وجد الواقع طبق النص ، ومت عدم الواقع ، يصبح النص مجرد آية للتعبد بالقراءة فقط ،  ويصبح يمثل مرحلة تعلم البشرية فكرة التحولات  الاجتماعية . لقد ظلم الأصوليون الإسلام بهذا الجمود والتحجر ، وبنشر مقولة غير صحيحة على المستوى الشرعي ، وكان الأولى كما أشرنا من قبل أن تكون (لا اجتهاد مع المحكم ). ومن منبر " المصريون الغراء" أدعو العلماء الكبر وأدعو الأزهر الشريف لمناقشة هذا الأمر مناقشة هادئة، ربما نتجاوز مرحلة الجدل البيزنطي و التآكل الذاتي .