رأيت في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام تناقضا شديدا بين الأزمة التي تعيشها الكلمة المبطوعة على مستوى الصحف وبين الازدهار الذي أصبح عليه الكتاب، فهناك مؤلفون كثر دخلوا ساحته وطبعوا كتبا وروايات وداودين شعر ودراسات متخصصة وغير متخصصة.
وقد لاحظ ذلك الكاتب الصحفي الأستاذ محمود سلطان فكتب "بوست" على صفحته عن هذه الظاهرة، وعلقت عليه ضمن غيري وقلت ساخرا: كتاب لكل مواطن، مستعيرا ما يعبر به إخواننا اللبنانيون عن انتشار المطربين عندهم بعبارة مشابهة "مطرب لكل مواطن".
ولكن إذا لاحظنا أيضا الكتب التي اشتراها زوار المعرض في شتى المعارف، يمكننا القول إن هناك حالة جديرة بالدراسة، فلماذا يجد الكتاب المطبوع مشترين له على عكس الصحافة الورقية؟!
الإجابة ببساطة أن الكتاب الالكتروني لم ينتشر بعد بالسهولة التي انتشرت بها الصحافة الالكترونية، إضافة إلى أن طبيعة الرقمية تختلف، فهي سريعة عابرة مثل زواج المسيار، ما تكاد تلقي بنظرك على عنوان أو مقدمة خبر أو تقرير أو حتى مقال حتى تنتقل منه سريعا. الكتاب يحتاج إلى التركيز والتطويل والاحتضان وهذا لا يتحقق إلا بصورته التي وجدناه عليها. ربما يطيح التقدم الالكتروني بذلك قريبا جدا، ولكنه حتى الآن على الأقل لم يقترب من الموت السريري الذي تجلس الصحافة الورقية على حافته.
الأزمة ليست خاصة بالصحافة القومية المصرية، بل تمتد إلى كل أنواع الصحافة الورقية، خاصة وحكومية ومتخصصة، مصريا وعربيا. أعلم أن صحفا عريقة في السعودية وقطر وبعض الدول الخليجية الأخرى لا تستطيع توفير المرتبات الشهرية لموظفيها، وأن هناك صحفيين ومنهم مصريون لم يقبضوا مرتباتهم منذ بضعة أشهر، رغم التزاماتهم في اغترابهم، فهم يحتاجون المال لتغطية نفقات الحياة ومدارس أولادهم وأمورهم الأخرى. أحدهم قالت له صحيفته "لا تقلق سنضع راتبك ضمن مكافأة نهاية الخدمة" كأنها تطمئنه على شيخوخته بعد عمر طويل!
وهنا لابد من السؤال: هل هناك حاجة إلى استمرار إنشاء المزيد من كليات وأقسام الإعلام والصحافة أو حتى استمرار القائم منها.. فلمن يغني الحمام؟!
التعليم ينبغي أن يرتبط بحالة العمل، ما يعني أننا نخدع مئات الطلبة بفتح أبواب تلك الكليات أمامهم والإدعاء بأنها كليات قمة، فيستنزفون عمرهم ويضيعون مستقبلهم في دراسات لن يعتمدون عليها في حياتهم العملية.
إذا كانت صحف الخليج تعجز حاليا عن الوفاء بالمرتبات، فالحالة لا ترتبط بالقراء وإنما بالإعلانات التي تعتبر السعودية أكثر مراكزها ثراء في الشرق الأوسط، لكن هذه الإعلانات بدأت تغير طريقها من الصحف الورقية إلى الانترنت، فهي لا تستهدف كبار السن الذين تعودوا على فنجان القهوة في الصباح مع الجريدة، بل الشباب الذين يمسكون بهواتفهم الذكية في أي مكان، حتى وسط زحام الطرق والمواصلات.
وقف تعيين جدد في الصحف الورقية والاتجاه تدريجيا إلى تحويلها إلى صحافة الكترونية بأعداد قليلة من الموظفين أمر حتمي يجب أن تسير عليه المجتمعات الذكية التي تستعد للمستقبل. أي تفكير آخر مضيعة للمال وللوقت. استعادة "الورقية" من الموت السريري إلى الحياة الطبيعية صعبة إن لم تكن مستحيلة. قارنوا بين أكشاك بيع الصحف قبل عشر سنوات وبينها الآن في مدينة القاهرة، فحتى الباعة لم يعودوا يهتمون بها ولا باستعراضها بمانشيتاتها العريضة في متاجرهم. ماذا يفعلون بمانشيتات تتحدث عن ما كان بالأمس، والذي أصبح بالنسبة لحاملي الهواتف الذكية خبرا من أخبار أهل الكهف!