الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 12:36 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

اللاعبون والفنانون..همنا أبعد منكم كثيرا.

يقولون أن التفاهة قد تبدو مجرد شىء يسلى ويذهب الملل ..لكنها لا تلبث أن تحيط بالإنسان شيئا فشيئا فتتفشى بضبابها الرمادى فى عقله ودماغه كالأبخرة السامة ..حتى يصبح الإنسان وشخصيته وعقله مثل اللافتة القديمة الصدئه..والتى كانت فى يوم من الأيام مرسوما عليها شيئا ما أو مكتوبا عليها شيئا ما..وبمرور الوقت لا يستطيع الانسان التعرف على هذا الشىء الذى تفسخ  وساح على بعضه فغابت ملامحه وصورته الأصلية..                

وقد رأينا هذا التدهور فى شخصيات كثيرة حولنا من زملاء قدامى أو معارف وأقارب لم نرهم من فترات طويلة وندهتهم نداهة( الفراغ والتفاهة)على رأى الراحل يوسف إدريس(1927 -1991م).. فوجدنا أنفسنا أمام ناس ليسوا كالناس وأشخاص ليسوا كا عرفناهم .. وكانوا من قبل نماذج فى تفكيرهم ورأيهم , حتى كلماتهم التى كانوا ينتقونها كما ينتقى الصائغ حبات عقده أصبحوا يهرتلون بها هرتلة غريبة فى بلاهة بليدة..                                     أين الناس ؟ وأين العقول ؟ وأين الأفكار..                                      (مصحف يذكرك ومغزل يشغلك )هكذا قال أحدهم  مشيرا وناصحا  ومن طلب المعانى من الألفاظ هلك كما يقولون ..المعنى واسع  جدا .. فالمصحف رمز للحضورالواسع للدين فى الوعى والتفكير والسلوك وصدق الله العظيم الذى قال فى سورة المزمل(علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فأقرؤا ماتيسر من القرآن) .. وأهل الطريق كانوا دائمى الحديث عن(التلاوة والطاعة والبساطة والنظافة).. والمعانى أوسع من الألفاظ مئات المرات كما عرفنا.. والأية الكريمة فى سورة الأنعام تقول(قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين) وهذا ليس دروشة وجذبا كما يدعون زورا .. ولكن حياة وإحياءً وعملا وبناءً.. 

 و كان صلى الله عليه وسلم يقول(إن الله يحب لكم معالى الأمورويكره لكم سفاسفها)..هناك معانى أوضح وأقوى وأعمق من أن يمزقها التفسير ويبعثرهاالشرح  المعاد المتكرر يكفى أن تسمعها أو تقرأها وتأخذها كما هى فتستقر فى مكانها الصحيح تماما فى رأسك.. كهذا الحديث الشريف .        أما(المغزل الذى يشغلك)كما فى باقى النصيحة الذهبية (كاسحة التفاهة والفراغ) فهى كل ما يجعل العقل واليد فى حالة حيوية ونشاط وإنتاج ودأب مستمر وممتد المفعول أيضا ..وما أنت إلا ما تفعله بنفسك ..وما شخصيتك إلا نتاج نشاطك الفكرى والإجتماعى والمهنى والأخلاقى ..الخ. 

**** 

إلى وقت قريب كان يٌنظر إلى الكرة والغناء والتمثيل على أنها مجالات لإمتاع الناس وتسليتهم والترفيه عنهم كما هو الشأن مع عروض السيرك وبرامج المنوعات التلفزيونية والأفلام الكوميدية ..وكلها تعمل على توفير أجواء تساعد الناس على التخفيف من واقع حياتهم الشاق نتيجة للأعمال الجادة التى يقومون بها فى الحياة تدريس وتعليم وطب وتمريض وهندسة وبناء وتشييد وعدل وقضاء وأمن ..وغير ذلك من أشكال العمران والنماء..وعليه فكل هؤلاء هم الأبطال والنجوم وأصحاب المكانة الكبيرة فى الدنيا و المجتمع , لكن الصورة وتقريبا من الستينيات  بدأت تأخذ شكلا عكسيا  وقد ازدادت وطفحت فى السنوات العشرين الأخيرة ..غذى ذلك بالطبع التطور فى وسائل الاتصال والتواصل والاعلام .. 

 لكن الأمر لم يكن بالبساطة التى ظهر بها ..وشيئا فشيئا بدأت الصورة تظهر لنا بوضوح أكثر.. فقد تحولت مجالات الترفيه هذه إلى ما يشبه الصناعة التى تدر أموالا هائلة على متعهديها ودوائرهم ومحيط دوائرهم ..وهذه الصناعة لا تقوم لها قائمة بدون الجماهير الغفيرة وأموالها .. ومن هنا بدأ الموضوع يدخل فى دوائر الخطر والتخطيط للتعامل مع هذا الخطر فأنت تتكلم فى مليارات تتحرك هنا وهناك بين أقدام لاعبين وضحكات ممثلين وغناء مطربين ..هذه نار يجب أن تستعربالليل والنهار..ووقودها هم الجماهير التى يجب أن تعبأ نفسيا وذهنيا للتخديم على كل ذلك ..ما أقوله ليس من منطلق خيالى لكن من منطلق ماهو حاصل بالفعل. 

**** 

فقامت لذلك إمبراطوريات إعلامية ضخمة للقيام بهذه التعبئة والشحن الذى لا ينقطع وأصبح هذا الإعلام مصنف تقريبا لهذا الغرض.. وعليك فقط التوقف ومراجعة كم البرامج الرياضية والتعليق الرياضى والتشاجر الرياضى والتصالح الرياضى ..وعليك أن تلهث وراء كل ذلك وما فيه من إثارة ونميمة وأخبار وزركشة .. أذكر أنى سمعت د/ خالد عبد العزيز وزير الشباب السابق يعلق على هذه الظاهرة قائلا :أنت تسمع البرامج الرياضية وكأن ما تسمعه لم يكن (ماتش كورة)..كان حصارستالينجراد مثلا .. وتعجب الرجل من إخراج الأمر بهذه الصورة الغريبة.. لأنه يساهم فى شحن سلبى للشباب المراهق الذى يتوق إلى الإنتماء والولاء(لشىء ما) يتجاوز عائلته وجامعته أو مدرسته .. والشعور بالإنتماء هو شعور غريزي  وسنجده عند الحيوان كذلك .. وراقب مجموعة الكلاب التى فى منطقتك السكنية ستجدها فى حاله(إنتماء مناطقية) كما يقول العلماء ..وبعد أن يقوموا بعملية (الهوهوه والنباح )المطلوبة على أى كلب أو مجموعة كلاب غريبة عن المنطقة ..تجدهم يستديروا فى ثقة تامة وراحة بالغة عائدين الى مناطقهم فى جماعات منظمة ..  

**** 

الإعلام الرياضى هذا يقوم بتصنيع اللاعب النجم والتحدث بالتفصيل عن عروض بيعه وشراؤه وأخباره وسيارته وحذاؤه ويتحول ذلك كله إلى مادة إعلامية ساخنة وياسلام لو اللاعب النجم قليل الأدب أو متعدد العلاقات .. يبقى رائع ونموذج (إحتذائى) ممتاز للشباب والمراهقين الذين يتم تفريغ طاقاتهم فى الدفاع والحديث الحار عن كل ذلك . 

المشكلة الأخطر والتى نحن بصددها هو أن اللاعبين يصدقون أن الموضوع بجد وأن المجتمعات لا تصحو من نومها ولا تعود إلى بيوتها إلا على (حسهم)..وبالتالى فـ(حسهم) فى دنيا الناس أمر يتعلق بالديمومة أو الصيرورة التى تتعلق بحركة المجرات والكواكب..  من (وهم خادع)يمنح الإنسان إحساس كاذب بالأهمية الخطيرة .. مثل الأهمية التى تحدثت عنها الراحلة أروى صالح (1951 -1997م)فى كتاب(المبتسرون) حين تحدثت عن البرجوازى المناضل الذى قرر التدخل لتصحيح حركة التاريخ . 

**** 

الغناء والتمثيل مشكلته أقل تعقيدا لكنها أوسع إنتشارا كونه يتصل بنوعيات وطبقات كثيرة تشمل الشباب والكبار الرجل والمرأة ..الفقراء والأثرياء.. الريف والحضر ..ونجوم الغناء أكثرهم مطربين أفراح وسهرات وبالتالى فإختلاطهم بالناس أوسع.. ولهم ايضا إمبراطوريتهم الإعلامية الخاصة بهم التى تخدم عليهم وتجلب الاعلانات للقنوات والمذيعين واصبح لديهم خبراء يقفون خلفهم كى يجعلوا من نجوميتهم حالة دائمة السطوع واللمعان  وأكثر إثارة  وإهتمام .. وهو ما يمنحهم سلطة واسعة تتجاوز كونهم مطربين او ممثلين.. سيتقدم بعضهم ليٌنظِر ويقدم (أطروحات)سواء فى حواراته أوفى أفلامه ..و(الذات صديقة من يسيطر عليها )كما يقول المثل الهندى وأنا مسيطر بحنجرتى التى تستبد  بطرب الناس مثلا أو بحركاتى التعبيرية التى تثير ضحكات الناس..وستجده بعدها يتجول فى ليالى الفراغ المظلمة ممارسا شروره.. 

**** 

ما أريد قوله من كل ذلك أننا نحتاج بالفعل الى وضع كل مربع فى خانته الصحيحة .. والجماهير لا تلام لأن القطرة تثقب الحجرة بتواصل السقوط عليها .. نريد أن نستمتع بمباريات الكرة فى حدود كونها متعة وتسليه ومصدر للبهجة لا حرب داحس والغبراء ..نريد أن نستمتع بفيلم أو مسلسل فى حدود كونه دراما للتسلية أو للضحك .. أن نسمع أغنية فى حدود كونها كذلك .. لكننا للأسف نجد من يجرجرنا لبحور(التفاهة ) وتصبح هذه الأشياء محور حياتنا وأفكارنا ونقاشنا ونصبح مثل رجل الثلج الطيب الذى يقع فى غرام المدفأة!! ..كما حذرنا كثير من المفكرين والمثقفين .. مثل ميلان كونديرا ويوسا وتشومسكى وأورويل . 

لكن كل ذلك فى جانب والنظر الى(عمق الموضوع)جانب أخر ..وعمق الموضوع فى(الفراغ الذى يستدعى ما يملؤه) الناس لم تنجذب كل هذا الإنجذاب لنوادى الكرة والغناء والتمثيل وكل تلك الأشكال من ألوان التسلية  والتسلى إلا لفراغ قاتل يفتك بهم فتكا ..لغياب  المعنى والقيمة والهدف النبيل . 

لدينا هموما حقيقية فى حياتنا وهى أبعد ما تكون عن لاعب كرة ومباراة (مصيرية).. ومطرب يتزوج ويطلق أو ممثل انتهت به حياته كهلا خائب المسعى فينثر حوله شائعات تافهة .. 

لدينا حياة كاملة بغاية وهدف ووعى بهذا الهدف يجعل هذه الحياة ذات معنى..سيكون ذلك اختيارا طوعيا أولا ثم يصبح بعدها ضرورة وجودية.