السبت، 31-10-2020
08:10 م
ازداد الجدل في السنوات الأخيرة حول
العلمانية الفرنسية أو
اللائكية الفرنسية laïcité (تنطق لايستيه) ، وخاصة بعد حادثة شارلي أبيدو ، وحادثة نيس الأخيرة ، وهذا الجدل ليس قاصرا على المجتمع الفرنسي فقط ، بل في
المجتمعات الغربية بشكل عام ، في سياق المقارنة بين
اللائكية الفرنسية و
العلمانية الأنجلو سكسونية . ف
العلمانية الفرنسية من وجهة نظر الكثيرين جامدة متحجرة strict secularism، وتمارس نوعا من المثالية واليوتوبيا غير القابلة للتطبيق ، فهي لا تؤمن بفكرة التنوع الثقافي و الاختلاف الأيدلوجي، وتصر على جعل الموطنين الفرنسيين نمطا واحدا ، ولذلك يكثر في حديث السياسيين الفرنسيين مصطلح “ أمة واحدة” . أما
العلمانية الغربية فهي أكثر رحابة ومرونة ، تؤمن بفكرة التنوع الثقافي multiculturalism
، ولذلك فلا مشكلة لديها في ارتداء الحجاب أو النقاب والتعبير الشكلي أو الرمزي عن الهوية الدينية ، ولذلك فالصدام (حتى الآن) في
المجتمعات الغربية مع الجاليات المختلفة وخاصة الإسلامية ، يعتبر نادرا ومحدودا. وقد صدرت قوانين
اللائكية الفرنسية في ديسمبر 1905 (فيما يعرف بالجهورية الثالثة)، تلك القوانين التي فصلت فصلا تاما بين الكنيسة الكاثوليكية و الدولة بكل مؤسساتها ، والتي قامت على مبادئ عدة منها : حيادية الدولة ،وحرية العقيدة ، والفصل التام بين الدولة والكنيسة . لكن السياق الذي صدرت فيه تلك القوانين كان سياقا مثاليا في ظل مجتمع متجانس يمكن تشكيله وفق رؤية الدولة ، ولم يكن يتوقع أن المستقبل سوف يتغير بطريقة دراماتيكية ، حيث حدثت موجات من الهجرات المتعددة من شمال إفريقيا و شرق آسيا وبلدان أخرى أتت بثقافات مختلفة ونشأت في سياق مغاير ، ومع الوقت بدأت تبرز مشاكل الهوية التي تحولت إلى صدام مع
اللائكية الفرنسية مؤخرا.، حيث انقسم الساسة والمفكرون الفرنسيون إلى قسمين : قسم يرى إمكانية أن تراجع اللائكية نفسها ، وأن تقدم بعض التنازلات (الثقافية) من أجل الحفاظ على بنية وتماسك المجتمع ، وقسم آخر لا يؤمن بفكرة التحولات الاجتماعية ، ويصر على تطبيق اللائكية كما كانت منذ صورها عام 1905 م. ، وهذا الفريق يمكن أن نقارنه بالتفسير السلفي المتزمت للنص . وقد كنا نتصور أن السلفية هي مذهب ينتمي إلى العالم الثالث ، والشعوب المحافظة ، لكن اتضح مع الأزمات الأخيرة في
فرنسا أن اللائكية هي شكل من أشكال السلفية الجامدة ، و أن التقدم التكنولوجي يخفي وراءه حالة من (التزمت الثقافي) ، بعكس ما يحاول العلمانيون العرب تسويقه بأنها نوع من الحرية والحداثة . لكن في حقيقة الأمر فإنها نوع من القهر والإجبار والجمود ، فالحداثة تعني الوعي بالظرف والسياق التاريخي ، لا التمسك بالماضي فقط حتى ولو كان متصادما مع الوقع ، وهو ذات المأزق السلفي و الوهابي. لذلك ليس مستغربا أن يصرح الرئيس الفرنسي أولاند منذ سنوات بأن
اللائكية الفرنسية ليست قابلة للتفاوض”pas négociable” .هذا التزمت هو الذي دفع البعض إلى تشبيه اللائكية بأنها" دين الدولة" "la religion d'Etat ، وجعل بعض المشرعين الفرنسيين يقفون ضد قانون منع الحجاب في المدارس عام 2004 مقائلا : أوقفوا
العلمانية الشمولية .
لقد بدا إذن أن العقل الفرنسي (الحداثي) لا يستطيع أن يتحلى ببعض المرونة ، وأن يتقبل فكرة الخلاف ، تلك الفكرة التي جعلها القرآن من بدهيات الطبيعة البشرية والمجتمعات : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين". ولذلك فإن الإسلام ليس لديه ذلك المأزق الفرنسي ، ويسمح للأقليات و المخالفين بأن يمارسوا شعائرهم و أن يتناولوا ما شاءوا من أطعمة ، وأن يرتدوا ما شاءوا من ثياب وملبس. فهل تتنازل
اللائكية الفرنسية عن (تفسيرها) القديم لقوانين 1905م ، أم تصر على ممارسة السلفية اللائكية ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى صدام غير مأمون العواقب؟