الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 16:11 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

في الصحافة والحياة..

الصدفة كنز الصحفي أحيانا

تلعب الصدف دورا بالغ الأهمية في توفير حدث فريد يلتقط له الصحفي صورة أو فيديو يدخلان التاريخ في زمن السوشيال ميديا، لكن الصدفة وحدها لا تكفي إذا لم يكن الصحفي قادرا على استشعار قيمة ما يحدث أمامه.
في تغطياتنا قبل ظهور السوشيال ميديا بمشاركاتها وسرعتها الجبارة، توفرت لنا تلك الصدف، واستغلها بعضنا أحسن استغلال، لكنها لم تعش أكثر من أيام ثم اختفت إلى الأبد، بينما لا تزال صورة وفيديو "رجل المدرعة" أثناء ثورة شباب 25 يناير تتقافز في وسائل الإعلامية الكبرى حتى الآن رغم مرور عقد عليها.
نشر موقع BBC تقريرا عن رجل المدرعة، هويته التي ما زالت مجهولة، والصحفيين اللذين التقطا الصورة والفيديو، أحدهما بجريدة المصري اليوم التي كانت واسعة الانتشار وقتها، وهو المصور، الذي التقط الصورة للحدث الذي صادفه في عودته سيرا على الأقدام إلى مقر جريدته بعد تغطية مظاهرة صغيرة أمام نقابة المحامين، بينما التقط الفيديو بالصدفة أيضا، صحفي آخر يعمل في راديو يبث عبر الانترنت من مبنى سكني يطل على ميدان التحرير، حسب تقرير هيئة الإذاعة البريطانية.
رئيس القسم الذي يعمل به مصور الصحيفة لم يختر تلك الصورة، في الغالب لأسباب رقابية، فنشرها المصور على صفحته بالفيسبوك يوم جمعة الغضب 28 يناير فنالت ملايين المشاهدات، أما مصور الفيديو فنشره على موقع الراديو.
من تلك اللحظة أخذت الصورة شهرة عالمية، وصارت صورة الشاب العشريني الذي يقف أمام مدرعة ترش المياه لتفريق المتظاهرين لمنعها من التقدم أيقونة للتظاهرات السلمية التي سجلت لحظة فارقة لجميع الأطراف بمن فيهم قائد المدرعة الذي توقف عن التقدم حتى لا يدهس الواقف أمامه، والشاب العشريني الذي منع متظاهرين آخرين من رمي المدرعة بالحجارة وهو يهتف فيهم "سلمية".
بعد ذلك بعامين كنت في اتلانتا بمقر السي ان ان في دورة تدريبية، وفي أحد الاختبارات العملية فوجئت بالصورة ضمن عشرات الصور والفيديوهات التي طلب منا ترتيبها وفقا لأهمية الإحساس بقيمتها، وكان الاختيار يتم شفويا، جميعنا اختار تلك الصورة، وكنا صحفيين من عدة جنسيات، ألمانيا وفرنسا والبرازيل وفيتنام والفلبين وكوريا الجنوبية والبحرين، وكنت أنا أمثل الأخيرة كوني مبتعثا في ذلك الوقت من قناة العرب التي كان مقرها في المنامة.
وأتذكر عندما كنت أغطي حرب البوسنة أوائل التسعينيات ودخلنا مسجدا قرب سراييفو دمرته دبابة صربية وقتلت كل المصلين فيه، أنني وصحفيون آخرون فوجئنا برأس رضيع معلقة على فرع شجرة، ولا تزال  السكاتة في فمه. هرعنا جميعا لنلتقط لها الصور. لم تكن إمكانيات التصوير مثل ما هي عليه الآن. بعد تحميض الصور في أحد الاستديوهات هناك كانت الصورة التي التقطها زميلي المصور بوكالة أنباء كندية هي الأفضل والأجود وأهدانيها بحسه الذي رأى أنها ستكون صورة الصفحة الأولى. ضممتها إلى صدري كأنها كنز، وحتى عندما صوبت إلينا دبابة قذائفها وأصابت هذا الصديق الكندي المسيحي وحملناه إلى مستشفى قريب، ظللت قابضا على الصورة، أخشى عليها أكثر من خشيتي على نفسي ونحن نسمع القذائف تنطلق على نوافذ المستشفى، دون أن تنال من شجاعة الممرضات في تقديم المساعدة لنا.
أيام وعدت إلى جدة. قلب مدير التحرير طيب الذكر الأستاذ محمد بركات الصور ثم هتف: هايل.. هذه صورة الصفحة الأولى. بركات هو صاحب برنامج "مراجعات" في قناة اقرأ بعد تأسيسها.
في الجمعة التالية كانت الصورة حديث خطباء المساجد في السعودية وطلبتها هيئات إغاثية من الدكتور عبدالقادر طاش رئيس التحرير عليه رحمة الله.
لكنها لم تكن في زمن السوشيال ميديا فماتت ولم يبق لها إلا ما تختزنه ذاكرتي عنها.