الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 21:56 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

وماذا بعد؟

أقصد: ماذا بعد انتهاء عاصفة أو جائحة «كورونا»، تلك التى وضعت العالم كله فى مواجهة عدو هاجم الجميع من دون اعتبار لحدود أو قانون، ومن دون تفرقة بين قوى بكل معانى القوة وضعيف بكل عناصر الضعف. أدى ذلك إلى بروز رأيين: أحدهما قال به الذين آمنوا بالديمقراطية أساساً للحكم الرشيد الذى به تصل رفاهية الشعوب إلى مراسيها الآمنة، يقولون: إن علاج الأزمات الكبرى مثل وباء «كورونا» لا يصح أن يتم على حساب الديمقراطية والحريات الأساسية والاقتصاد الحر، وإنه من شأن التمسك بمبادئ الديمقراطية وسياساتها وقوانينها وإدارتها للأمور، أن تنجح الدول والمجتمعات فى التعامل بكفاءة مع هذا التحدى الخطير.
المعنى هنا واضح: لا يصح أن تصبح الديمقراطية ضحية «كورونا»؛ بينما يقول الرأى الآخر: إن مواجهة الأزمات الكبرى مثل «كورونا» تتطلب شيئاً كثيراً أو قليلاً من المركزية والقسرية، وربما استدعاء قوانين نائمة، واستحداث أخرى، من شأنها جميعاً أن تُمكِّن الدولة من التحكم فى مسار الأمور، بما فيها تلك القوانين والأوامر السيادية والإدارية التى تقيد الحريات وتوجه مسار الاقتصاد. هذا الرأى الثانى كان له على الدوام الغلبة، ولكن باعتباره سياسة مؤقتة، تُرفع بالفعل بانتهاء الأزمة، لتعود الأمور كما كانت فى إطار الديمقراطية ونظمها. والتاريخ الأمريكى بالذات ملىء بالأمثلة فى هذا المضمار، منذ ثلاثينات القرن الماضى، سواء فى مواجهة الحروب العظمى أو الانهيارات الاقتصادية.
وأما بالنسبة إلى الدول والمجتمعات المحكومة ديكتاتورياً، فهذه الآراء والتساؤلات كلها لا محل لها، المهم أنه فى مواجهة «كورونا» لم يكن هناك فرق بين الديمقراطيات وغيرها، فالمهم هو كفاءة المواجهة ومدى نجاحها، أما بعد ذلك فسوف نرى ونسمع آراء ومقاربات مختلفة، إلا أن أول ما سوف يتخذ من قرارات سيتعلق بإعادة الحياة إلى طبيعتها، وإلغاء القيود التى فُرضت، خصوصاً ما يتصل بالتباعد الاجتماعى. سوف يكون هناك شعور احتفالى بزوال الغمة، وهو ما يجعلنى أخشى أننا (وغيرنا طبعاً) سوف نعود إلى ما كنا عليه من دون أدنى تغيير، أو بتغيير طفيف سرعان ما سوف تذروه الرياح، سيكون ذلك هو الفشل الأول، ثم يأتى الفشل الكبير فى أن الولايات المتحدة سوف تعود إلى انتخاباتها وضجيجها.
وستعود الصين إلى متابعة مشروعها الأثير (الحزام والطريق)، وأوروبا إلى خلافاتها الداخلية، ومحاولة إصلاح ذات البين بين أعضاء الاتحاد الأوروبى. وتعود روسيا إلى خلافاتها الضيقة مع الولايات المتحدة، وتنافسها على بعض النفوذ فى القارة الأوروبية، ويعود الحديث الذى لم يتوقف عشرات السنين عن إصلاح الأمم المتحدة، وزيادة عدد أعضاء مجلس الأمن، وغيرها من المشكلات التى لا تتسع لها تلك السطور. ولكن الأهم هو عودة الشد والجذب وتبادل الاتهامات ثم التوترات بين الولايات المتحدة والصين. لقد بدأت الحرب الباردة بالفعل بين الدولتين العظميين، وجاء «كورونا» ليزيدها منافسة واشتعالاً، وهو ما أرى أنه سوف يستمر إلى ما بعد «كورونا».
خلاصة الأمر فى رأيى أن عالم ما بعد الوباء سوف يشهد ما يلى:
? حدة فى إدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين.
? شروخاً فى العلاقات داخل التحالف الغربى.
? اضطراباً فى العلاقات الأمريكية - الروسية.
? محاولات لإصلاح النظام متعدد الأطراف، بما يضمه أيضاً من وكالات متخصصة، ومراجعة أداء تلك الوكالات والآليات، وفى مقدمتها منظمة الصحة العالمية.
? مراجعة عدد من التفصيلات المتعلقة بالعولمة، وبصفة خاصة إدارة أمور الاقتصاد والتجارة العالمية والصناعة، الموزعة عناصر إنتاجها على مراكز عديدة حول العالم، وخصوصاً فى الصين، ومواجهة الغرب لحقيقة أن الصين أصبحت المصنع الكبير على مستوى العالم، والعمل على وضع حد لذلك. هنا يمكن توقع تغييرات كبيرة؛ أقلها إعادة توزيع المصانع المنتجة للسلع الاستراتيجية بعيداً عن الصين، وعلى خريطة أوسع، وطبقاً لاحتياجات اقتصادية وجيواستراتيجية أكثر شمولاً.
? التغيير الأهم بسبب «كورونا» سوف يتعلق بمعدلات الثقة بالاستثمار فى مجال الصحة العامة، والمصل والدواء، والمستشفى والطبيب، والطواقم الطبية، بالإضافة إلى التأكيد على الشفافية وضمان إعمالها. وسوف يكون هناك كثير من الاستثمارات الجديدة فى هذا المجال، وعلى الاقتصادات النامية أن تأخذ هذا فى الاعتبار، وأن تدرس إمكانيات الاستفادة منه.
وبناء على ما سبق، وحتى لا نفقد الفرصة للتغيير الحقيقى فى إدارة أمور الحياة فى القرن الحادى والعشرين التى أتاحتها الجائحة؛ بل أكدت ضرورة وأهمية استثمارها، يهمنى أن أطرح ما يلى:
إن الدعوات إلى المطالبات بالتغيير تحتاج إلى توافق على مفهوم جديد للتهديدات الحقيقية للسلام الدولى، وإن التعريف الذى انبنى على تطورات الحرب العالمية الثانية ونتائجها أصبح اليوم قاصراً وغير شامل، وإن النصوص الخاصة به فى ميثاق الأمم المتحدة تستدعى إعادة نظر.
إن وباء «كورونا» هدد السلام والاستقرار الدوليين بشكل واضح، وبناء على ذلك، فالأوبئة فى عصرنا هذا يجب أن تعتبر - رسمياً - تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وكذلك تغير المناخ، والانفجار السكانى، بالإضافة إلى صراع الحضارات، ودعوات الكراهية والتفرقة بكافة مظاهرها، التى تؤدى إلى تصاعد التوتر داخل المجتمعات وفيما بينها.
وقد أسعدنى كثيراً أن ينعقد مجلس الأمن للنظر فى إيجاد «علاج جماعى» لفيروس «كورونا» فى الأسبوع الماضى (9 أبريل «نيسان») إلا أنه مع الأسف أخفق (كالمعتاد) فى الارتفاع لمستوى التحدى، بسبب خلافات ومصالح الدول العظمى، رغم تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة أن «كورونا» وما طرحه يعتبر تهديداً للأمن والسلم الدوليين، أى أنه يصب فى صميم اختصاص المجلس. وكذلك - ومع الأسف أيضاً - أخفقت الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الأمر يتطلب فى رأيى تعبئة الرأى العام العالمى (معاهد البحث والتفكير، ومنظمات المجتمع المدنى، والجامعات، والاتحادات، والنقابات المهنية، والأحزاب)، على مستوى العالم كله، للضغط والمطالبة بهذه التعديلات على ميثاق الأمم المتحدة، وتوسيع اختصاص مجلس الأمن ليشملها، وكذلك أن تنص التعديلات المقترحة على إعادة صياغة «مقاصد الأمم المتحدة»، لتشمل فى مقدمة أولوياتها شؤون الصحة العامة، إلى جانب شؤون الأمن الدولى والتنمية. وفى هذا أرى العمل على بلورة اقتراح يطالب الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تدعو إلى مؤتمر شامل، على غرار مؤتمر سان فرنسيسكو الذى أقر ميثاق الأمم المتحدة، أو أن تنعقد هى فى شكل هذا المؤتمر، للنظر فى مثل تلك التعديلات على الميثاق وإقرارها. وبالمناسبة، يجدر التفكير فى ألا يسرى «حق استخدام الفيتو» على شؤون الصحة والمناخ والسكان.
ومن ناحية أخرى، فبالتوازى مع تأهيل النظام متعدد الأطراف لمواجهة التحديات الجديدة للسلام والاستقرار الدوليين، فإن من الضرورى مناقشة وضع ونتائج سياسات وممارسات العولمة، خصوصاً العولمة الخشنة التى من شأنها الإضرار بمصالح واستقرار ورخاء كثير من الدول والمجتمعات النامية؛ بل وغيرها.
إن الأوضاع الاقتصادية الخطيرة المتوقع مواجهتها فى مختلف أنحاء العالم ومناطقه نتيجة للتراجع؛ بل والشلل فى عديد من جوانب الاقتصاد العالمى نتيجة لـ«كورونا»، تتطلب إعادة نظر جادة فى النظام الاقتصادى برمته، الذى قادته اتفاقيات «بريتون وودز» عقب الحرب العالمية الثانية. وهنا فقد يتطلب الأمر أيضاً الدعوة إلى «بريتون وودز» جديدة (كما طالب عدد من المفكرين بالفعل) تنعقد لهذا الغرض.
وختاماً: إذا كان الإجماع منعقداً- كما هو واضح - على أن الأمور بعد «كورونا» لن تكون مثلما كانت قبله، فإن صياغة المستقبل هى مسؤوليتنا جميعاً، وليست مسؤولية الدول الكبرى فقط؛ خصوصاً بعدما شهدنا من سوء أدائها؛ بل سوء نياتها، وأنانيتها فى مواجهة الجائحة. العالم لن يثق بقيادة تلك الدول وحدها للمسيرة الدولية لما بعد «كورونا».

* رئيس لجنة الخمسين ووزير الخارجية المصرى الأسبق والأمين العام للجامعة العربية الأسبق
نقلا عن الشرق الأوسط