السبت 02 نوفمبر 2024
توقيت مصر 22:13 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

مجلة (العربى).. وحزن وراء أحزان

62 عاما تمر هذا الأيام على صدور مجلة (العربى) من دولة الكويت ..لا تستطيع أن تقول الكويتية لأنها لم تكن كذلك.. فقد كانت كما قالت وثيقة إصدارها (خدمة قومية لسائر أبناء العروبة) ..هل علمت لماذا هو حزن وراء أحزان؟ لأنها كانت قومية وكانت للعروبة !! ترامب الكذاب(كذب 1684 كذبة منذ تولية كما قالت الواشنطن بوست) هذا الكذاب صدق حين قال أن هناك دول عربية تقف في الطابور تنتظر دورها في إقامة علاقة كاملة مع إسرائيل ..دول عربية لم تكن لها ظروف مصر أو الأردن مثلا فى حرب وسلام وهو ما قد يكون مسبوق ومتكرر تاريخيا في تاريخ صراعات المنطقة..لكنها للأسف دول لا علاقة لها أصلا بسياسة الصراع لا بالمعنى الاستراتيجى الواسع ولا بالمعنى التاريخى المركب..ومع ذلك ثبت أنها تقف في الطابور بالفعل .. أتهرب عمدا من ضحكى /أرغب أن أضحك لكنى/أعرف أن الضحك سيبكى. 

**** 

مجلة العربى صدرت في ديسمبر 1958م  في عز المد العروبى والثورى الذى صدًقه العرب وخذله حكام العرب كانت الوحدة المصرية السورية (2/1958 -9/1961) بالكاد مرعليها 10 شهور وكانت السيدة أم كلثوم والأستاذ عبد الوهاب والأستاذ عبد الحليم  وإذاعة صوت العرب قد تكفلوا بأذان المواطن العربى من طنجة للبحرين وكانت الدنيا كلها تتابع ثورة المليون شهيد في الجزائر .. الكويت نفسها لم تكن قد نالت استقلالها بعد(استقلت عن الحماية البريطانية 1961م) ناهيك طبعا عن الإمارات وقطر والبحرين(استقلت  1971م)  

في عهد أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح(1895 – 1965 م) وبمشاركة عدد من رجال الأسرة على رأسهم الشيخ جابر الأحمد الصباح رئيس الدائرة المالية والذى سيصبح أميرا للبلاد فيما بعد من 1977 م حتى 2006م ..والشيخ صباح الأحمد مدير دائرة المطبوعات والنشر وقتها والذى سيصبح أميرا للبلاد عام 2006 ويتوفى في سبتمبر الماضى .. ليقدموا هدية  حقيقية لأمتهم ..ولا أدرى حقيقة ولا أعرف سبب بزوغ هذه الفكرة في رؤوسهم .. وللحقيقة أنفق الكويت مئات الملايين على مدى عقود على نشر الثقافة الرفيعة بأسعار زهيدة لأبناءالعروبة خدمة للثقافة والمثقفين ..لم تستهدف الكويت إلا المكانة المحترمة..وأكاد أتصور أن صدور مجلة العربى في هذا الوقت وقدر الجهد والمجهود والدعم الذى توفر لها يساوى في وزنه وتأثيره تأسيس قناة الجزيرة من قطر عام 1996م .. وجميل أن تسعى كل دولة لإبتعاث نواحى القوة التأثيرية الساكنة التى تجعل لها وزنا في محيطها الإقليمى .. 

**** 

ولأنها بالفعل كانت مجردة من كل غرض أو هدف يفسد معاني الواجب القومي الحق فقد نجحت تلك المجلة العريقة نجاحا صاعقا ..لا شك أن عوامل النجاح تضافرت وأجتمعت  فليس هناك نجاح مجانى من الهواء الطلق لكن في النهاية كما يقول أهل الطريق علامة الإذن التيسير .. وعلى رأس تلك العوامل كانت قاطرة نجاح هذا العمل  هو فريق العمل الذى تهىء لها وفى مقدمتهم أول رئيس تحرير لها العلامة الدكتور /أحمد زكى.. وهنا يطل علينا الحزن البئيس برأسه من جديد .. لأن هذه الشخصية الضخمة بل البالغة الضخامة في كل نواحى تكوينها لا يكاد يعرفها أحد الأن وسيادتك لو ذكرت إسم (أحمد زكى) لأحدهم الأن فسيتبادر الى الأذهان كابوريا وحسن اللول.. الممثل الراحل الجميل (أحمد زكى/ 1949 – 2005)والذى قدم أيضا أعمال سينمائية ممتازة.. لكن في طبيعة الأشياء وتاريخ الأمم والأوطان..الأمور تقدر بقدرها وتوزن بوزنها . 

فمن هو العلامة الكبير الذى قاد أول تجربة عمل ثقافى متكامل النجاح وأصدر 200 عدد من هذه العمل الكبير ؟ والذى كان إختياره أحد أهم عوامل التوفيق التى صاحبت هذا العمل من يومه الأول .. ليس لجدارته وقوة حيثيته فقط ..ولكن لكونه شخصية عربية عظيمة من الطراز الأصيل ومتجاوز بقيمته وقامته للمحلية فهو وإن كان مصرى إلا أن تجاربه وتاريخه وعلمه وأدبه الخلقى والمعرفى وخبرته الواسعة بالدنيا والناس..كل ذلك وأكثر جعله(أحمد زكى)وكفى..وفى النهاية هو غير كويتي الأمرالذى يضفى مصداقية كاملة على الفكرة وأصحاب الفكرة . 

الدكتور أحمد زكي (1894-1975 م)إبن السويس وأستاذ الكيمياء العضوية في كلية العلوم بجامعة القاهرة.. تخرج من كلية العلوم  جامعة ليفربول عام 1923وحصل  على دكتوراه الفلسفة في الكيمياء من نفس الجامعة ثم عمل وواصل البحث العلمى بجامعة مانشستر وجامعة لندن والتى ستمنحه الدكتوراة في العلوم .. وهو أول من وضع مرجعا علميا في علم الكيمياء..وهو  مدير مصلحة الكيمياء ومؤسس المعهد القومي للبحوث ومدير جامعة القاهرة .. وتعيينه مديرا لجامعة القاهرة عام 1953م له قصة جديرة بأن تروى..  إذ قام أحد الضباط الأحرار بزيارة المعهد القومى للبحوث وأبدى فى حديثة ما يشير إلى امتهان مكانة المعهد ودوره .. فأسرع الرجل بتقديم استقالته .. وما أن علم اللواء محمد نجيب (1901 -1984م) بالواقعة حتى أصدر قرارا فوريا بتعيينه مديرا لجامعة القاهرة واعتذر له.. رحم الله محمد نجيب وغفر له نواياه الطيبة..قبل حركة الضباط كان الدكتور أحمد زكى وزيرا سياسيا .. إذ تولى وزارة الشؤون الاجتماعية فى أخر وزارة فى العهد الملكى(وزارة أحمد نجيب الهلالى) لمدة عشرين يوماً فقط  . 

سنعرف أيضا أن الدكتور أحمد زكي أديبا كبيرا من أدباء العربية  ..ورأس تحرير عدد من المجلات الثقافية فى الأربعينيات ( مجلة الهلال العريقة) وكتب في الأدب والشعر والفكر السياسي والاجتماعي والفلسفى .. وهو أبضا عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي ببغداد وشخصيته المستقلة بقيمتها العلمية والفكرية كانت من أبرز صفاته التى عاش ومات بها ..
دار الشروق أصدرت له فى السبعينيات( فى سبيل موسوعة علمية ) فأنت حين تتحدث عن الثقافة العلمية البحتة سيتبادر الى ذهنك فورا إسم العلامة(أحمد زكى) وما فتحه لنا من مسارات ما لا يدرك من مظاهر الحواس . 

 **** 

بعد وفاة الدكتور أحمد زكى الذى توفى والمجلة في عز إزدهارها .. تولى الأستاذ أحمد بهاء الدين(1927 – 1996) رئاسة تحريرها من عام 1976 حتى 1982م .. والأستاذ بهاء أحد أيقونات الصحافة المصرية الكبار رأس تحرير صباح الخير والهلال وله تشابكاته في دنيا السياسة في الفترة الأصعب في تاريخها كله (الخمسينيات والستينيات) وكان داخل المطبخ  وله علاقاته المتوازنة  جدا والمحترمة جدا والدقيقة جدا بالأساتذة مصطفى وعلى امين والأستاذ هيكل الذين كانوا منغمسين انغماسا غموسا غامسا في التنظيمات والتربيطات والاتصالات والتحركات  وهو ما جعله من أنسب الشخصيات لتولى المسؤلية بعد الدكتور زكى .. فقد عاصر ورأى وسمع  وشاهد عصر(الإخفاقات الكبرى)وأدرك بهدوئه الشهير أن الثقافة هي وحدتنا  القومية الحقيقية وهى المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وهى ما سيبقى منا ولنا وبعدنا..وياليت غيره كان قد أدرك ما أدركه..            

ومن فطنة الأستاذ بهاء المهنية والفكرية والسياسية أن اصطحب معه في هذه المهمة الكبيرة الأستاذ الكبير فهمى هويدى مديرا لتحرير المجلة ..الرجل صاحب الخبرة الصحفية العميقة والعريضة في الأهرام منذ 1958م  وهو فوق ذلك (مفكر)من طراز السادة الأقدمين ..ولأنه حضارى وعروبى حتى النخاع فقد مد الجذورعميقا في أصل ومركز وقلب هذه الحضارة(الإسلام العظيم) وانتج لنا ما سيُقرأ قراءة مرجعية  طويلة في معالجات الشأن الاسلامى المعاصر .. 
بعد الأستاذ بهاء رأس تحرير المجلة الدكتور محمد الرميحى والدكتور سليمان العسكرى والأن يرأس تحريرها دكتور عادل عبدالقادر. 

**** 

كلنا نهلنا من(العربى) ولازلنا في مجالات الأدب العربي القديم والحديث و الأدب العالمي باتجاهاته ومدارسه المختلفة والفنون( الموسيقى/ السينما/المسرح/ الإذاعة/ الرسم) وتعلمنا الكثير من معالجات المشاكل الاجتماعية وطالعنا بشغف الموضوعات المصورة لربوع الوطن العربي ..ناهيك عن الموضوعات العلمية المتخصصة  والموضوعات الاقتصادية ..ومن ينسى كتاب الشهر المعروض بتلخيص ورصانة ..فى العربى طالعنا الكتابات المبدعة للأساتذة محمد المخزنجى وأنور الياسين ومحمد المنسى قنديل وسليمان مظهر وصلاح حزين والاستاذ محمود المراغى الصحفى الاقتصادى الأشهر وباب(أرقام) وغيرهم من كبار الأسماء الصحفية والثقافية الذين كتبوا لنا ما لا يعد من مباهج الثقافة و المعرفة والخيال . 

**** 

تميزت( دولة الكويت) دائما بدبلوماسيتها الهادئة وقد تابعنا دورها الكريم فى المصالحة الخليجية_أتمها الله على خير_ فالكويت بلد جميل متصالح متسامح وديمقراطيتها أحد خصائصها المتفردة فى المنطقة ..  

ونحن وإن استدعينا ذكرى (مشهد) عروبى عظيم من خلال (العربى) وعطاءات المجلس الوطنى للثقافة والعلوم والأداب(الوجه المشرق للثقافة العربية ).فلم نملك ترف تجاهل ما حملته هذه الذكرى من كدر وأحزان ملأت سماء العروبة وحضارتها الإسلامية والإنسانية الواسعة ..وفى إنتظار الذى يأتى ولا يأتى .. قل: يا لبؤس الواقع ويا لروعة الذكريات.