الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 21:04 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

زحام الفتوى والسؤال.. وإيمان (الست غالية)

يعلم أغلبنا أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسألوه إلاعن ثلاثة عشر مسألة وتنزل القرآن بها و وبين إجابتها..(يسألونك ..) الخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى ..إضافة لذلك ..هناك نصوص قرآنية واضحة ومباشرة فى النهى عن السؤال وكان مضرب المثل لنا فى ذلك اليهود كما جاء فى سورة البقرة (..أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل موسى من قبل)..وقصة ذبح البقرة أوردها القرآن بالتفصيل لعمق وخطورة الموقف والمعنى الذى فيها ..وهناك أيضا  بنفس الخصوص الأية الكريمة فى سورة المائدة(يا أيها الذين امنوا لا تسألوا عن أشياء إن تٌبد لكم تسؤكم ...).
عبدالله بن عباس وما أدراك ما بن عباس.. الذى دعى له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دعى بأن يرزقه الله الفقه والتأويل..وستندهشوا حين تعلموا أنه كان أحد الأصدقاء المقربين جدا لعمر رضى الله .. يتجالسوا.. يتمشوا مع بعض ويتناقشوا فى الشعر والتاريخ وأحوال الدنيا والناس..بن عباس قال جملة مهمة فى موضوع    (السؤال) قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
الحديث المتصل أيضا  بهذا المعنى ورواه البخارى (إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال وإضاعة المال  وكثرة السؤال) وكلمة سؤال هنا مفتوحة على كل معانيها..  لكن المعنى القرب هو السؤال الإستفهامى ..البخاري أورد لنا أيضا قول الرسول الكريم : إن أعظم المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يُحرَّم فَحُرِّم مِن أجل مسألته.
هذا المعنى الذى يتحدث عنه الرسول لم يحدث .. لا فى سيرته صلى الله عليه وسلم ولا مع صحابته الكرام.    لم قاله الرسول إذا ؟ وهو الذى لا ينطق عن الهوى ..ثم أنه صلى الله عليه وسلم توفى والأمة كلها تعرف الحلال والحرام ..وحديث الحلال بين والحرام بين ..أبين من الشمس فى عز الظهر ..
****
ما فهمته من ذلك وقد يكون خطأ أو صحيح ..أن الرسول توقع أن يأتى بعده من يسلكون هذه المسالك الوعرة ويتخذون من الدين (صنعة)..علماء متخصصون كانوا أو ناس عاديين فيقوموا بتضييق الواسع وتعسير اليسير والمبالغة فى الحذر والحيطة بحجة سد الذرائع  فيضعون الناس فى(الزاويه الحادة ) والحرج الدينى .. وتبدأ قصص السؤال والتحريم .. وهنا مربط الوجع .
دعونا نكمل ..الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ذروني ما تركتكم , فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرةِ سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم , فإذا أمرتكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم , وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه).
دعونا نقترب أكثر ..الرسول صلى الله عليه وسلم قال) :إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها , وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) وفى نفس(المعنى الغائب) عنا وعلينا ..قال أيضا صلى الله عليه وسلم :(الحلال ما أحل اللهُ في كتابه , والحرام ما حرم الله في كتابه, وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا) ..وضع مليون خط وخط تحت جمله (فلا تتكلفوا) .
****
وتروى لنا  السيرة أن الصحابة توقفوا عن(السؤال) حتى جاء جبريل عليه السلام فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام/الإيمان/الإحسان/الساعة /وأماراتها ..
أسلوب رواية عمر _فقيه الأمة الأعظم _ لهذا الحديث كان كله ذكاء وأدب وجمال..(..طلعَ عَلينا رجل شدِيد بياضِ الثياب شديد سوادِ الشعر لا يُرى عليه أَثَر السفر ولا يعْرفه مِنا أَحد..) يعنى نزل من السماء ! لكنه لم يقل ذلك وفعلا أخبرهم الرسول أنه كذلك .
وبالطبع فى هذا المعنى لا يغيب عمر وعقل عمر وفقه عمر وبصيرة عمر ..تقول الروايات أنه خرج مع عدد من الصحابه فيهم عمرو بن العاص حتى جاءوا الى حوض..فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا.. فإنا نرد على السباع وترد علينا .. وأظن قصة صاحب الميزاب(المزراب) مشهورة جدا وكان قوله فيها تعليقا على من يسأل : لا تخبره ..فإن هذا ليس عليه.
****
سنستنتج من كل ذلك أن الدين كله يسر وتخفيف ورفع حرج وتسهيل وتبسيط وعفو و وضوح ؟ فيما كان إذن هذا الكم الهائل من الإنتاج الفقهى عبر هذه القرون الطويلة ؟ .
أفهم أن يجلس الإمام مالك (711-795م) فى المدينة  المنورة وينتج كتاب (الموطأ) فى الوقت الذى كان فيه الإمام أبو حنيفة(699-767م) فى العراق قد سبقه الى إنتاج فقهى مختلف (الرأى والعقل),ثم يأتى الشافعى (767-820م)ليتعلم من الإمام مالك الذى يكتشف مواهبه غير العادية فيقول له إذهب الى العراق وناقش موضوع مدرسة الرأى والعقل هذه , فيذهب بخطاب توصية من مالك الى أقرب تلاميذ أبو حنيفه (أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى) فيعطياه كل ما تركه أستاذهما ..سينتهى الشافعى من مهمته  ويعود إلى أستاذه الذى يكمل له النصيحة بأن يذهب الى مصر ففيها فقيه لا بد لك من التعرف عليه .. الليث بن سعد(713-791م) فيموت الليث قبل أن يصل الشافعى مصر فيجمع من تلاميذه ما أستطاع من علمه..وينتج أعظم ما أنتجه العقل البشرى فكريا ويخترع علم جديد (أصول الفقه) ..ولكتمل لنا فى المكتبة الصلبة لأمتنا ثلاثة مدارس فقهية معتبره ومستقله ومختلفه اختلاف توسع ورحمة لا اختلاف رفض وإنكار..الفقه الحنفى و المالكى و الشافعى..أحمد بن حنبل(780-855م) كان جامع لحديث الرسول وتلاميذه هم من صنعوا من (مسنده) مذهبا بعد رحيله.

أما كان يكفى كل ذلك على أرضية الدين السهل ..إعتقادا وعبادة وتشريعا وأخلاقا..؟ ماذا لو كان كل هذا الكم الهائل من العلماء وأصحاب المواهب والأذكياء عبر التاريخ الحضارى الاسلامى والذين نعتز بهم و أختاروا الدراسات الدينيه..ماذا لو كان نصفهم مثلا قد أتجهوا الى علوم الحياة( طب وفيزياء وكيمياء وفلك..سياسة وإقتصاد..) صحيح أن هناك تراث علمى  موجود بالفعل ولكن نسبته قليلة جدا قياسا الى ما حدث فى أوروبا مع عصر النهضة والتنوير بدأ من القرن الـ 14م.
*****
المشكلة  القائمة الأن والتى حولها ألف قصة وحكاية وألف تفسير وتبرير(نفسى واجتماعى واقتصادى وبالطبع سياسى)هو فى هذا الكم الهائل من السؤال والفتوى تفاعلا وانفعالا بالدين ..وجعلت  السفهاء والحقراء يتجرأون على الدين ومعشر المؤمنين..ويا قذارة القذارة وأنت تسمع  تعليقاتهم وبذاءتهم فى الفضائيات عن شطاف الحمام وإرضاع الكبير وجماع الوداع وزواج الاطفال وكل ما يخطر ببالك من (روث البهائم )هذا المختبىء فى أدمغتهم .
طاحونة (أنت تسأل وفضيلة الشيخ يجيب) والتى تعمل بأعلى ضجيج ..ولا تكف عن الطحن فى الفاضى والمليان.. ولا العلماء أخذوا بأيدى الناس العاديين إلى أخلاق وتطبيق (لا تسألوا..)..ولا توقف الناس البسطاءعن السؤال..كل هذا لابد من مراجعته .. قوام (الإيمان)فى الإسلام جزء هام وخطير منه اسمه النهى عن(كثرة السؤال)..أين هذا الفهم ؟ ولم اشتغل العلماء على الناس بهذه الطريقة المريبة؟ وتركوهم نهبا للفضائيات التافهة تعيش عليهم بالبرامج الدينية..ولم يرشدوهم الى السلوك الإسلامى الصحيح فى الكف عن التنطع والسؤال.. طريق (أسجد واقترب) لا يحتاج كل هذه الكلكعة والشوشرة .
****
نعلم جميعا أن الدراسة الدينية والتخصص الدينى يمنح مكانة اجتماعية ووجاهه يطلبها كل البشر فى كل زمان ومكان(الدراسة فى الأزهر كانت حلم الأباء لأبنائهم فى القرون الثلاثة الأخيرة).
أبو حامد الغزالى(1058-1111م) رفع الغطاء عن الجميع.. وقال عن نفسه فى كتاب (المنقذ من الضلال) وكان فى الخمسين من عمره: (لقد مكثت طويلا ودوافعى غير خالصة لوجه الله تعالى ..!! بل باعثها ومحركها  كلها طلب الجاه واشتهار الصيت..)فأنتبه  لنفسه وبالفعل غير بوصلته تماما وأصلح الله له حاله لأنه صدق فى طلبه وإرادته.
لسنا فى مقام الإتهام لأحد وليعاذ بالله ..بل ونكاد نكون كلنا ذلك الرجل  بدرجة أو بأخرى ونحاول أن نسعى سعى الغزالى ..لكن علينا ان ننتبه  لخطورة تحول الدين إلى(إشتغاله) للبعض يشتغلوا بها على الناس ..ويا فرحة الأفراح لو كان حفيظ وجرىء ..خلصت .     
وتزداد الليلة ظلاما حين تتداخل العوامل النفسية والتنافسية والجذور الاجتماعيه الخفية..وتقوم خصومات وعداوات..وكله بإسم(الدين)..والموضوع لا علاقة له بأرض الموضوع على رأى محمود درويش الله يرحمه.. له علاقة بحاجات تانية خالص .                                                                                       
****
ما يعنينا بالأساس هو أن لا يكون أحد _بسوء نية أو بحسن نية_ جزء من حالة (الصد عن الطريق الى الله).. هل تذكرون الحديث الشهيرللرسول الكريم ..والذى أخطأ فيه أعرابى فى القول للرسول فقام عليه الصحابه , فمنعهم الرسول..وانتهى الموقف بنصح الرسول لصحابته الكرام ولنا أيضا  بأغلى النصائح وقال : مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا..فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي.. أنا أرفق بها وأعلم بها..فتوجه إليها ودعاها حتى استجابت..
وإني لو أطعتكم حيث قال الأعرابى ما قال لدخل النار..صلى الله عليه وسلم.
فهل ينتبه من يلاحقون الناس ويطاردونهم باللمم والسيئات  والزجر والنهى عمال على بطال.

وأختم بكلام جميل وسهل وبسيط وعميق قالته(الست غاليه) صاحبة برنامج الوصفات الشهير ..إذ تلقت سؤالا من أحد الشباب يسألها لماذا لا تتحدثين فى الدين..؟ فاندهشت الست غاليه وقالت بتلقائيه : أنا الحمد لله ولا إله إلا الله وأشهد ان محمد رسول الله .. وقلبى طيب .. وعمرى ما حطيت إيدى فى حاجه إلا وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم ..ولا طلًعت حاجة طلع شكلها حلو الا وقلت: اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد .. بأحب الخير وزيارة الأهل  وزيارة حبايبى وأحب الصدقة والقلب الطيب ..وتحب اللى حواليك وصفى قلبك ونيتك .. ولحد ما أموت وأحط رأسى فى التراب حأفضل أقول كده وأعمل كده...                                                  شكرا يا ست غاليه .. بجد ألف شكر.