السبت، 30-05-2020
03:27 م
عبد الآخر حماد
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ). [ أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) ].
وهو حديث جليل عظيم الشأن ، بل هو أصل من أصول الإسلام ،كما قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم ، والمقصود منه بيان أهمية هذه الأمور المذكورة فيه ، وأنَّ من توافرت فيه بصدق وَجدَ للإيمان في قلبه حلاوةً تُيسر له استلذاذ الطاعات ، وتحمل المشقات في رضا الله سبحانه ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد لفت نظري قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري ( 1/ 60) : ( وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح، لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مراً، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه ، وكلما نقصت الصحة شيئاً ما نقص ذوقه بقدر ذلك ) .
والتلميح - ويسميه بعضهم التمليح - فنٌ جميلٌ من فنون البلاغة العربية ، من فروع علم البديع ، وحقيقته كما ذكر الشيخ محيي الدين الدرويش في كتابه إعراب القرآن وبيانه ( 3/ 59) : ( هو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر ،أو شعر نادر ،أو قصة مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل ) . ومعنى ذلك أن المتكلم لا يُصرِّح بذكر القول أو المثل أو القصة ، وإنما يشير إلى ذلك إشارة خفية ، فيكتفي بالتلميح دون التصريح اعتماداً على فطنة القارئ أو السامع وذكائه .
ولتوضيح ذلك التعريف أذكر مثالين مما ذكره صاحب المصدر السابق في سياق حديثه عن فن التلميح : أما أولهما فهو ما حُكي عن أبي العلاء المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب المتنبي ،فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضى فجرى ذِكْرُ أبي الطيب ،فهضم المرتضى من جانبه . فقال له أبو العلاء: لو لم يكن له من الشعر إلا قوله: " لك يا منازل في القلوب منازل" ،لكفاه، فغضب المرتضى ،وأمر به فسحب وأخرج .وبعد إخراجه قال المرتضى: هل تدرون ما عنى بذكر البيت؟ فقالوا: لا واللّه، فقال: عنى به قول أبي الطيب في قصيدته: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأنيَّ كامل
وللتوضيح أقول : إن الشطر الذي ذكره أبو العلاء ،هو مطلع قصيدة المنازل لأبي الطيب ، والبيت على التمام هو : لكِ يا منازلُ في القلوبِ مَنازِلُ ** أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ
لكنَّ أبا العلاء - كما فهم الشريف المرتضى – لم يكن يقصد البيت المذكور ،ولا القصيدة بجملتها ، وإنما كان يشير فقط إلى قول أبي الطيب في تلك القصيدة : وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... إلخ ، وهذا التلميح فيه اتهام للشريف المرتضى بالنقص ، وهذا هو الذي أثار غضبه وجعله يأمر بإخراج أبي العلاء على الصورة المذكورة في القصة .
وأما المثال الثاني فهو ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأذكياء قال: قعد رجل على جسر بغداد ،فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرُّصافة إلى الجانب الغربي ،فاستقبلها شاب، فقال لها : رحم اللّه عليَّ بنَ الجهم ،فقالت له: رحم اللّه أبا العلاء المعري، وما وقفا ،بل سارا : مُشرِّقاً ومُغَرِّبةً ،قال الرجل : فتبعت المرأة فقلت لها: واللّه إن لم تقولي ما أراد بابن الجهم فضحْتُكِ ، قالت أراد به:
عيون المها بين الرُّصافة والجسرِ ** جلَبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
وأردت بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالكَرْخ إن مزارها ** قريب ولكن دون ذلك أهوالُ
أي أن ذلك الشاب ألمح إلى بيت عليِّ بن الجهم في الغزل ، قاصداً التعرض لتلك المرأة بشيء مما يسمى في عصرنا بالتحرش اللفظي، فأشارت بترحمها على أبي العلاء إلى بيته المذكور الذي يُفهم منه أنَّ عليه أن يقطع أمله فيها ، فإنها وإنْ ظنَّها قريبة المنال ؛إلا أنَّ الوصولَ إليها دونه أهوال .
نعود إلآن إلى كلام الحافظ ابن حجر لنستجلي ما أراده من وقوع "فن التلميح " في هذا الحديث الشريف ، فإن مقصود الحافظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ألمح من خلال هذا الحديث إلى ما هو معروف عند العرب ،بل عند الأمم عامةً ،من أن الشخص المريض لا يتلذذ بطعم الماكولات والمشروبات ،حتى إنه ربما وجد العسل مُرَّ المذاق ، بخلاف الإنسان السليم الذي يحس بطعم الأشياء على ما هي عليه ، وهو المعنى الذي صاغه المتنبي بعد ذلك شعراً في قوله:
ومن يك ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يجد مُراً به الماء الزلالا
وإنْ كان أبو الطيب أيضاً لم يقصد المعنى الحسي المباشر ، وإنما كان يقصد الرد على أناسٍ كانوا يذمونه ويعيبون شِعرَه ،فيقول: إنَّ العيب ليس في شعره ،وإنما في كونهم ليسوا من أهل الذوق الشعري والإدراك الأدبي ،الذي يمكنهم من فهم قصائده ، فهي استعارة تمثيلية شبَّه الشاعر فيها حال منتقديه بحال المريض الذي يجد الماء العذب الزلال مراً في فمه ، لا لعيبٍ في الماء ،وإنما لمرضٍ عند الشارب .
والتلميح في الحديث يُفهم من كونه صلى الله عليه وسلم قد شبَّه الإيمان بطعام أو شراب ذي طعم حلو ،ولكن هذا الطعم لا يجده إلا من توافرت فيه شروط معينة هي المذكورة في الحديث ، وهذا يستدعي في ذهن اللبيب قضية الصحيح والمريض التي أشار إليها ابن حجر ، فكأنه يريد أن يقول لنا : كما أنكم تعلمون أن الإنسان السليم يحس بطعم الأغذية الطيبة ويتنعم بها ، وأن الإنسان المريض بخلاف ذلك ،حتى إنه قد يجد العسل في فمه مراً ، فكذلك صاحب القلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يذوق طعم الإيمان ويتلذذ به ويشعر بثمرته ، وصاحب القلب المريض بخلاف ذلك . فكان ذلك من بديع الاستعارة وفصيح البيان.
وأخيراً : لا بد من الإشارة إلى أن هذا التوضيح البلاغي الذي قدمناه ، إنما يخدم قضية مهمةً من قضايا الاعتقاد ،وقاعدةً عظيمة دلت عليها نصوص الوحييْن ،واستقرت عند أهل السنة والجماعة ، ألا وهي كون الإيمان يزيد وينقص ، وأن أهل الإيمان يتفاضلون فيما بينهم . فإيمان أبي بكر وعمر مثلاً لا يساويه إيمان آحاد الناس ، وقد قال عمر رضي الله عنه فيما أخرجه البيهقي في شُعب الإيمان بسند صحيح، : ( لو وُزن إيمانُ أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم ) .
وبيان ذلك أن إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قضية الصحيح والسقيم ، تدل على أن الناس ليسوا على درجة واحدة في قوة الإيمان ، وإنما هم متفاوتون فيه كتفاوتهم في الصحة والمرض ، فإذا كان الواقع أنه كلما نقصت صحة الشخص شيئاً ما نقص ذوقه بقدر ذلك - كما نقلناه عن الحافظ ابن حجر قبل قليل – فإن الناس كذلك في مسألة الإيمان يتفاوتون تفاوتاً كبيراً ، وكلما نقص الإيمان شيئاً ما ،نقص ما يستشعره القلب مِن حلاوته وما يجده من ثمرته بقدر ذلك النقص . ولهذا قال الحافظ بن حجر في تتمة كلامه السابق : ( فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوى استدلال المصنف- أي البخاري - على الزيادة والنقص ) أي على زيادة الإيمان ونقصانه .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين