الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
توقيت مصر 10:28 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الشيخ محمد الغزالي العالم المخلص البكاء

ولد الشيخ محمد الغزالي في يوم السبت الخامس من ذي الحجة 1336ه الموافق 22 من سبتمبر لعام 1917م في قرية "تكلا العنب" مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة في أرض الكنانة.
وسماه أبوه محمد الغزالي لحبه لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فكانت بشرى وإشارة إلى ولادة حجة ثانية للإسلام بعد ما يقرب من ألف سنة من ولادة حجة الإسلام الأولى أبي حامد الغزالي.
لقد عاش الشيخ طرفي حياته بين مدرستين إصلاحيتين، فكانت بداية حياته العلمية في المدرسة الإصلاحية التي نشأت حول أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وهي المدرسة التي حاول الشيخ   تحويل أفكارها إلى واقع، ورفع رايتها، وإكمال رسالتها.
واصل الشيخ مسيرته الدعوية والعلمية هاديا للصحوة الإسلامية حيثما حل، ومنافحا عن الإسلام في كل المحافل التي ولجها، ومؤصلا لفهم للقرآن والسنة يقوم على التعامل المباشر معهما وفق رؤية كلية لا تبعيض ولا تنطع فيها، وتفاعلا مع ما يجري في عالم الإسلام بل والعالم أجمع من أحداث وما يحصل من تطورات. وهكذا جمع شيخنا رحمه الله تعالى في شخصه بين وظائف الأستاذ المعلم في قاعات الدرس بالجامعات، والخطيب المصقع المفوه على منابر المساجد، والداعية العامل لهموم الأمة المرشد لمسيرة الصحوة، والمجاهد المجالد المتصدي لهجمات العلمانيين والتغريبيين، والكاتب ذي الأسلوب السهل الممتنع المؤصل لاجتهاد منهجي عماده الارتكاز على كليات الإسلام ومقاصده وإدراك الحكمة من أحكامه، المدرك لما يواجه الأمة من تحديات، والمستوعب لما ينبغي الأخذ به من الأولويات.
قد كان رحمه الله تعالى متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتحرى دائما أن يكون خلقه القرآن، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، يتدبره ويتأمله ويقف عند حدوده، ويلتزم بأوامره ونواهيه، ويقبل عليه بولَهٍ وتدله. ولقد كان ذلك سر فخامة أسلوبه ولطافة إنشائه وجمال تعابيره في كتبه وخطبه ومقالاته، كما كان سر قبوله لدى الناس كافة في كل العالم. فترجمت كتبه إلى كثير من اللغات الأجنبية وفي مقدمتها كتابه "من هنا نعلم" الذي ترجمه إلى اللغة الإنجليزية الشهيد إسماعيل الفاروقي رحمه الله. وقد كانت المؤسسات تتنافس على دعوته لمؤتمراتها، كما دعي إلى أغلب دول العالم لسماعها أو تكريمه، أو الإفادة من علمه ونظرته إلى الحياة. وكان فكره القرآني سر إحاطته وشموليته، فلم يدع من شؤون عصره ومستجدات الأمور شيئا إلا وتطرق إليه، أو كتب فيه، أو حاضر حوله. وكذلك كان ارتباطه بالقران وراء سعيه الدائم إلى معالي الأمور وانصرافه عن سفاسفها، وانشغاله بالكليات عن الجزئيات، وكان ذلك أيضا وراء تصديه لملاحدة العصر ومنحرفي الأمة والشاردين عن طريق الصواب، يقيم عليهم الحجة ويقي الناس من تلبيساتهم، ويهدي الحيارى إلى أقوم طريق. فقد رأيناه يرد على صديقه خالد محمد خالد رحمه الله الذي ظل على صداقته مع خلافه في الرأي من حسن خلقه وجميل معاشرته وتأدبه بأدب النبوة العالي، رأيناه يرد على كتابه "من هنا نبدأ" بكتابه "من هنا نعلم". وقد رجع المرحوم الشيخ خالد في كتابه " الدولة في الإسلام" الذي أصدره في الثمانينات عن آرائه التي ضمنها كتابه "من هنا نبدأ" الذي لم يعد نشره. كما تصدى الشيخ الغزالي لأزهريين خطفت الماركسية أو الليبرالية بصائرهم وعبروا عن أنفسهم بنحو مقالة "نريد فقها ماركسيا ونحوا فرنسيا وبلاغة إنكليزية"، وقاوم الهجوم الذي شنوه على العلماء، كما قاوم الظلم الاجتماعي وحارب التخلف وأسبابه وآثاره ومظاهره، كما حارب الجهل والضعف ودعا إلى كرامة الإنسان والسلام الاجتماعي والعدل والصدق والتقوى.
و قد روى الدكتور العوا في أحد محاضراته في جمعية مصر للثقافة والحوار يقول: بعد حادثة الاغتيال الفاشلة التي حدثت لحسني مبارك بأديس أبابا سنة 1995م، توجه وفد من كبار العلماء والمشايخ إلى القصر الجمهوري في القاهرة لتهنئة حسني مبارك على نجاته من الحادث.
وبعد اللقاء العلني الإعلامي والذي قال فيه الشيخ الشعراوي كلمته المشهورة لمبارك والمتداولة إعلاميا، بعد هذا اللقاء طلب مندوب من رئاسة الجمهورية من الشيخ الغزالي والشيخ الشعراوي والشيخ جاد الحق، الانتظار في غرفة بالقصر الجمهوري، ودخل حسني مبارك لهم، وجلس بجانب الشيخ الغزالي، وبعد مجاملات معتادة، قال حسني مبارك للشيخ الغزالي وهو يضع يده على ركبته: ادع لي يا شيخ غزالي، أنا حملي ثقيل، أنا مطلوب مني كل يوم الصبح أوكل سبعين مليون.
قال الشيخ الغزالي: لم أشعر بنفسي وهو يقول ذلك، فقلت له: إنت بتقول إيه؟!
فكرر عبارته: أنا مطلوب مني كل يوم أوكل سبعين مليون.
يقول الغزالي: فوجدت نفسي أنفجر فيه لأقول له: انت فاكر نفسك مين؟!
إنت فاكر رُوحك ربنا؟!
هو انت تقدر توكل نفسك!
قال الشيخ الغزالي: فارتبك الرجل وتغير لون وجهه، وقال لي: أنا قصدي من الكلام المسؤولية اللي عليَّ.
قال الشيخ الغزالي: ولم أكن قد سمعته جيدا، فأكملت: مسؤولية إيه؟! المسؤولية على اللي يقدر، وإحنا كلنا في إيد ربنا.
أنت بكتير، بكتيره تدعي وتقول: يا رب ساعدني، لكن تقول: أوكلهم، وكِّل نفسك.
قال الشيخ الغزالي: فوضع الرجل يده على ركبتي مرة أخرى وقال: استنى يا شيخ محمد، استنى، أنت يمكن مش فاهمني.
فقال له الغزالي: مش مهم أفهمك، المهم أنت تفهمني، يا أخي (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون).
فسكت الرئيس مبارك ونظرت إلى وجهه وهو متحير، فأدركت ما فعلت، وأفقت، فنظرت إلى الشيخين لعل أحدهما يعينني، فوجدت أكبرهما سنا (الشيخ محمد الشعراوي) قد أسند ذقنه على عصاه وأغمض عينيه، ووجدت أكبرهما مقاما (الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر) قد أسند رأسه إلى مقعده وأغمض عينيه تحت نظارته التي نصفها ملون ونصفها الآخر أبيض، وأكمل الرئيس كلامه بما يشبه الاعتذار عما قال، والرضا بما كنت أقوله، وجامل كلا من الشيخين بكلمة.
ثم قمنا لنخرج فأوصلنا إلى باب السيارة، فأسرع أحد الشيخين فجلس إلى جوار السائق، ودار الثاني ليركب من الباب خلف السائق، وكنت أنا أبطأهم خطوة، فمشى الرئيس إلى جواري حتى بلغنا باب السيارة، فمددت يدي لأفتحه، فإذا بالرئيس يسبقني ليفتحه لي، فحاولت منعه من ذلك وأمسكت بيده وقلت له: أرجوك يا سيادة الرئيس لا تفعل.
فقال: هذا مقامك يا شيخ محمد، أنا والله أحبك يا شيخ محمد، ادع لي.
ركبت السيارة وأغلق هو الباب، وبقي واقفا إلى أن تحركت السيارة، فأشار إلي مودعا، وانطلقت السيارة والشيخان صامتان لم يتكلم أي منهما بكلمة حتى أوصلناهما واحدا بعد الآخر، ثم أوصلني السائق إلى بيتي.
وفي صباح ثاني يوم اتصل الشيخ جاد الحق والشيخ الشعراوي بالشيخ الغزالي، وقال كل واحد منهما له: لقد قمت بفرض الكفاية عنا يا شيخ غزالي.
قال الشيخ الغزالي للدكتور العوا: اسمع يا محمد، احفظ هذه الحكاية، ولا تحكها إلا بعد موتي، فإني أرجو أن يكون ما قلته لهذا الرجل في الميزان يوم القيامة، وأن يدعو لي بعض من يعرفونه دعوة تنفعني إذا فارقت الأهل والأحبة.
وفاة الشيخ:كان الشيخ الإمام طوال عمره يدعو ويقول اللهم ارزقني الوفاة في بلد حبيبك المصطفى وكان أهل بيته يستغربون وكذلك تلامذته ويقولون هذا صعب للغاية وشاء الله تعالى أن يدعى الشيخ لمؤتمر في الرياض عام 1996م وترجاه تلامذته ألا يذهب لئلا يتطاول عليه أحد من الأدعياء وكان الأطباء قد منعوه من السفر ومن الانفعال.ولكنه صمم على السفر وألقى فيه كلمة وقام إليه أحدهم واتهمه بمعاداة السنة فانفعل الشيخ وعلا صوته وهو يدافع عن موقفه من السنة وكان آخر كلامه: نريد أن نحقق في الأرض لا إله إلا الله وأصيب بذبحة صدرية وخر ميتا..
وبأمر من الأمير عبد الله -ولي العهد- وبتوصية من الشيخ عبد العزيز بن باز-مفتي المملكة- نقل جثمان الشيخ إلى المدينة المنورة .
يقول الدكتور زغلول النجار-حفظه الله-: لما حضر جثمان الشيخ للمدينة فوجئنا أن هناك طائرات خاصة أتت من جميع أنحاء العالم تقل ناسا كثيرين أتوا للصلاة على الشيخ الغزالي في المسجد النبوي وازدحم المسجد عن آخره وخرجنا بالجثمان إلى البقيع وكنا ندفنه وما زال الناس بالمسجد من كثرتهم ..
يقول الرجل الذي يتولى دفن الأموات بالبقيع: إن صاحبكم هذا أمره غريب كلما شرعت في حفر حفرة أجد الأرض لا تلين معي حتى جئت هنا ولانت معي الأرض بين قبري نافع مولى عبد الله بن عمر ومالك بن أنس صاحب المذهب المالكي.