الإثنين 23 ديسمبر 2024
توقيت مصر 02:27 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الشيخ «الغزالي» كيف انتقل من الشك إلى الإيمان الكامل بالإسلام؟

الشيخ محمد الغزالي

يعد الشيخ محمد الغزالي، أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، عرف بأفكاره المعتدلة، وآرائه المستنيرة، كانت له إسهاماته الفكرية البارزة، معتمدًا في منهجه لفهم الإسلام، على اختياره له دينًا بالاقتناع والعقل والقلب، بعد أن ورثه بالولادة والتلقي والتلقين عن أبويه، ومجتمعه المسلم في ريف مصر في قرية نكلا العنب بمحافظة البحيرة .

كان هم الشيخ الغزالي الأول والأخير، في كل أعماله، ربط الناس بخالقهم وتعميق إيمانهم به، والتدليل على دور عقيدة الإسلام في تحرير الروح الإنسانية والإسلامية من أغلال الشرك المؤدي لكل الموبقات الموقعة في المعيشة الضنك لأبناء آدم. ولهذا كان فهم الإسلام ولماذا اختار الإسلام دينًا جزءًا من كتاباته .

يكشف الغزالي عن التطورات الفكرية التي مر بها في مقتبل حياته، والتي كان لها تأثير على منهجه الفكري في سنوات عمره اللاحقة، وجعلته ينتقل من التلقي السلبي إلى اليقين القلبي والعقلي، قائلاً: "لقد ورثت الدين عن أبوي كما ورثت اللغة، أي بالتلقي والتلقين، اللذين لا يصحبهما طويل تأمل أو إعمال فكر. ثم مرت بي مع فترة المراهقة حالة شك، اجتاحت كل ما أعرف، وجعلتني أناقش-في حرية أدنى إلى الجرأة- مواريث الإيمان والفضيلة-، وتقاليد الحياة العامة والخاصة ولا أدري كم بقى هذا الشك؟" .

ولأن العاقل يستحيل أن يعيش طول عمره أو أغلبه شاكًا تحيره الريب-كما يقول -، فقد انتهت حالة الشك تلك، إلى نتيجة حاسمة، وخلص من هذه الرحلة، بأن الله حق. واستبعد-وهو مطمئن-كل افتراض بأن العالم وجد من تلقاء نفسه، أو وجد دون إشراف أعلى. ثم شرع ينظر في الإسلام ويقارنه بالمسيحية التي انتشر مبشروها في بلادنا في ركاب الاستعمار الإنجليزي .

من التقليد إلى الاقتناع

ومن ثم بدأت مرحلة جديدة في حياة الغزالي، خرج فيها من الإسلام التقليدي، ليكون المسلم المقتنع بدينه وعقيدته، اقتناعًا يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة. وصار كل يوم يمر به يزيده حبًا للإسلام، واحترامًا لتعاليمه، وثقة في صلاحيته للعالمين، وجدارته للبقاء أبد الآبدين .

ويعيد الغزالي، جذور هذا الإيمان إلى كثرة إدمان البصر في الكتاب والسنة، مع إدمان البصر في الوقت نفسه إلى آفاق الكون والحياة . فالإسلام - كما يقول - ليس دينًا غامضًا حتى يحتاج في فهمه وعرضه إلى إعمال الذهن وكد الفكر، إن آيته الأولى: هي البساطة. وميزته التي سال بها في الآفاق: هذه السهولة البادية في عقائده، وشعائره وسائر  تعاليمه .

ويقول معبرًا عن نفسه وملايين المسلمين البسطاء: "أنا أحد الألوف المؤلفة التي تؤمن بالله العظيم، وتسبح بحمده، وتقر بجلاله ومجده، وتنتعش بنعمته رفده. ولقد عرفت هذا الإله الكبير عن طريق النبي العربي المحمد، قرأت كتابه، ثم درست سيرته، فتجاوبت فطرتي مع رسالته، واستراح فكري وقلبي إلى دعوته، وأصبحت واحداً من جماهير ضخمة رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد-عليه الصلاة والسلام- نبياً ورسولاً" .

يؤكد الغزالي، بعد طول معاناة في حقل الدعوة، أن الإسلام لم يصب في ميادين الحياة من شيء، مثلما أصيب من هذه الأثواب المزورة التي أُظهر فيها، وتلك التشويهات الزرية التي ألصقت به .

ومن أهم تلك الأثواب المزورة، عشرات الكتب التي ألفت في عصور مختلفة، والتي لم  يعد منها بطائل، بل خرج منها وهو بحاجة إلى ما ينظف ذهنه كما يحتاج الجسم إلى حمام ساخن بعد دلكه من الغبار والأوساخ .

 فقد ضاق الغزالي، ذرعًا، بتلك الكتب الإسلامية التي طالعها في صدر حياته، لما شابها من لغو وتخليط وخرافة، وكان يسخر من بعض فصولها، ويرفض الإذعان لها. وعلم-بعد- أنه كان على حق في هذا التحدي، فقد كانت هذه الكتب في واد، والقرآن الكريم والسنة المطهرة في واد آخر .

وهو لذلك يشير إلى أن مئات الكتب في التفسير والحديث والأدب والتاريخ مخلوطة بسموم ناقعة، وخرافات سمجة تتداولها ألوف الأيدي، ويقرؤها من يعي من لا يعي. وأن هذه الكتب، السفيهة الزائغة، قد كثرت حتى غلبت الثقافة الدينية الصحيحة. حتى جعلت غالب من طالعها وتعلم من خلالها من الأجيال المتأخرة من المسلمين، خلال القرون الأخيرة، يسيرون متعثرين لا تشدهم وجهة، ولا تدفعهم قوة، لأن الثقافة التي صنعتهم لا تنتج إلا نفوسًا خاملة وعقولاً شائهة .

الاستبداد عدو للتقدم والحضارة

ومن موقع العالم والداعية، يرى الغزالي، أن خير درس في تعريف الله إلى الناس وتعليمهم عقائد دينهم، أن ننتقل بهم إلى مشاهد الكون، فنذهب بالطلاب إلى حديقة نضرة، أو حقل مهتز، ثم نلفت أنظارهم إلى ما انشقت عنه الأرض من أغراس وأعواد. فالعقائد التي أسسها الإسلام تتسم بالبساطة والوضوح والقوة، وهي تتخذ طريقها إلى العقل والقلب ذلولاً قويمًا، إن وجدت طرق التعليم القائمة على التفكر في الكون ومخلوقات الله .

كما كان الغزالي يرى في الاستبداد عدوًا للتقدم والحضارة، وكان يردد "لا حرية حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا دين حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا حضارة حيث يكون هناك استبداد سياسي". وكان يقول إن "الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا. وهو دخان مشؤوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج" .

دافع عن المرأة، وفنّد دعاوى خصوم الإسلام بشأن ما قيل عن اضطهادها وامتهانها، قائلاً: هل يلام الإسلام إذا أقام نظامه على عدم تكليف المرأة بالارتزاق، وجعل الزوج أو الأب مسؤولاً عن زوجته أو ابنته!.. هل يلام الإسلام إذا عرف أن المرأة ستفقد عرضها عن طريق لقمة الخبز، فوضع نظامه على أساس توفير اللقمة لها، واستبقاء عرضها مصونًا؟ ثم قال: هل العري والرقص والتبذّل واستثارة الغرائز الهاجعة.. هل هذه حقوق رفيعة كسبتها المرأة؟ فدعمت بها جانبها في المجتمع، أم أن هذه نزعات حيوانيّة فرضها الرجال الأشرار لكي يبتذلوا المرأة ويجعلوها طوع شهواتهم؟

كان يرى أنه لا بد من التوسّط والاعتدال في مسألة السفور والحجاب، فيكون حجابًا شرعيًا تتمكّن معه السيّدات من المساهمة في النهضة الدينيّة والخدمة .

ودعا إلى فتح باب الاجتهاد، قائلاً: "إن إغلاق باب الاجتهاد هو اجتهاد، وهذا الاجتهاد بإغلاق باب الاجتهاد انتهى إلى ضرر، والضرر هو أن الأمة توقفت فعلا عند التفكير القديم الذي كان سائًدا في القرن الرابع تقريبًا، والزمن يتجدد، وكما قيل: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من أنزعة... فلا بد من أن يترك باب الاجتهاد مفتوحًا".

ووصف أحوال المسلمين، فقال: "المسلمون الآن مصابون بتديّن الشكل، لا تديّن الموضوع، والدين عندما يتحوّل إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته.. لأن الدين قبل كل شيء قلب حي وضمير يقظ وسريرة نظيفة" .

المؤلفات

ألّف الغزالي عشرات الكتب، بينها: خلق المسلم، كفاح دين، نظرات في القرآن، تراثنا الفكري، هموم داعية .

كما صدر له أيًضا: عقيدة المسلم، حصاد الغرور، من وحي السيرة، معركة المصحف في العالم الإسلامي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، "السنّة النبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث" الذي أثار جدلا في المجلاّت الإسلاميّة .

ومن الكتب المهمة التي ألفها الغزالي: قذائف الحق، الإسلام والأوضاع الاقتصاديّة، الإسلام والمناهج الاشتراكيّة، تأمّلات في الدين والحياة، الإسلام في وجه الزحف الأحمر، واقع العالم الإسلامي، موكب الدعوة، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، كيف نتعامل مع القرآن؟ وهي مدارسة أجراها معه مدير مجلة" الأمة" القطرية عمر عبيد حسنة .

وقد جُمعت خطبه في كتاب "خطب الشيخ محمد الغزالي في شؤون الدين والحياة" .

توفي الشيخ محمد الغزالي بالرياض يوم 9 مارس 1996 أثناء اشتراكه في ندوة الإسلام والغرب، ودفن بالمدينة المنوّرة وفق وصيته

طنطاوي: ملجأي الوحيد بعد الله

قال عنه الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل: "ما كنت في يومٍ من الأيام أتصور أن أقف هذا الموقف، مؤبنا لأستاذنا وشيخنا الأستاذ محمد الغزالي، رحمه الله وطيب ثراه، فلقد عرفت فضيلته -كتلميذ من تلاميذه- منذ أكثر من ثلاثين سنة، وارتبطت صلتي بفضيلته ارتباطًا شديًدا، وفى السنوات الأخيرة زاد تعلقي بفضيلته، وكان لا يمر شهر واحد إلا وأذهب إليه في بيته، فنجلس جلسة طويلة نناقش فيها أمور ديننا وأمور دنيانا، وكان فضيلته هو الملجأ الوحيد بعد الله عز وجل الذي ألتجأ إليه عندما تحيط بي الكروب والهموم، فكنت أذهب إلى فضيلته فأجد في لسانه الكلمة الطيبة، كما أجد في قلبه السلامة، كما أجد في عقله الرجاحة، كما أجد في علمه الواسع الكثير من المنافع التي كنت في حاجة إليها، كنت أخرج من منزله بعد اللقاء الطويل الذي ألت" .