الخميس، 07-01-2021
01:57 ص
حاولت الفكاك من أسر
الإبداع في بلادي فأعجزني، أكتب وأسرد وأنا متدثر بعباءة
المحروسة؛ تستطيع أن تميز تلك الحالة من الوهج والتأنق من غيرها بعدة سمات تتقارب فيما بينها؛ إنها مزيج من اليمين واليسار أخرجت لنا
كتابة تستطيع أن تقول حين تقرأ إنها عربية بنكهة
مصرية؛ فهذا سرد الرافعي ممزوجا بالعقاد مجتمعا إليهما فتحي غانم وبهاء طاهر ومحمد مستجاب و
المخزنجي على
نجيب محفوظ على نثر
جمال حمدان في شموخ محمود شاكر وتراقص وتدلل لغة
رضوى عاشور؛ وروعة مي زيادة التي كانت نحلة يحاول الأدباء ارتشاف رضبها؛ نازلي فاضل وصالونها ولا أبعد اللورد كرومر ومغازلاته؛ مفردات من معجم يخلو من الترهل ويبتعد عن التقعر شأن أهل
مصر؛ تذهل حين تجد
الكتاب ال
مصريين يمتلكون
اللغة العربية ولا تشطط بهم نزعات العامية؛ يحاورك المازني فيسرق عقلك؛ تجد رأسك قد تحطمت ألف مرة وذهب بصرك أشتاتا لكنها مؤتلفات من الفكر؛ يمسح دموعك ويؤاسيك الرافعي في رسائل أحزانه؛ يبسط طه حسين بعينه التي حرم منها أمامك الوصف فتظن نفسك ناقدا بارعا وإن ألقى في نفسك الشك مرة ومرة؛ هل تصدقني قاريء العزيز إن طعم السرد في
مصر يشابه النيل في حركته الثعبانية وعنفوانه الذي يتأبى على الخنوع؟
كثيرون من
الكتاب في بلاد الله يمسكون بأقلامهم لكنهم لايمتلكون ذائقة مبدعي وطني؛ يقول أحدكم أنت إقليمي؛ مجزء للعروبة؛ فأجيب عليه بأنني سارد يدري بمسارب القول ومظان اللغة؛ لم تتفرنس
مصر وإن نال بعض مبدعيها العطر الباريسي؛ ولم تتأمرك وإن صقلت عقول مفكريها صرامة الرأي وحدته، إنها لغة جمعت بين المفردة القرآنية والصورة الشعرية؛ إن تقرأ للطيب صالح تجد السودان ماثلا في حكيه وتنقله بين أشجار الدوم والنخيل؛ وتلك طبيعة اللغة بنت مكانها وصورة أهلها؛ وهل تظن حنا مينة وحديثه عن البحر سيحكي لك عن
المحروسة وحاراتها ودروبها: سعادة والهوى وجماميز؟
لاشك أن كتاب
مصر مختلفون وتلك طبيعة الخلق؛ لكنهم ينتظمون في إطار جامع من صورة متكاملة الأجزاء مركزها البساطة والسهولة لا النجاد والهضاب في جفوة الصحراء أو غدر البحر وتلاطم أمواجه؛ يكتبون فترتسم أمامك عمارة من سرد عجيب؛ انظر صنع الله إبراهيم ودقة غوصه في الحياة إنه حرفي بل صنائعي عجيب؛ ولعلك قرأت شيء من الخوف لثروت أباظة فهل ابتعدت عنك رمزيته والمكسوت عنه من آراء؟
المعلم خيري شلبي الذي كتب عن عوالم المهمشين في الريف؛ الأوباش وبغلة العرش وإسطاسية؛ الوتد وحكاية الحاجة فاطمة تعلبة؛ لم يكتبوا عن السندباد والشاطر حسن بل من عرق الجبين وحياة البسطاء وأحلامهم.
شفافية محمد عبدالحليم عبدالله شجرة اللبلاب، غصن الزيتون؛ شمس الخريف.
بعد كل هذا يحق لنا أن نقول ت
مصر يحيى حقي وتحول إلى ابن بلد عتيق في قنديل أم هاشم والبوسطجي وخليها على الله؛ وأخيرا انتبه وكتب صح النوم.
الأدب في عمومه فردي ولم يتواص جمع فيؤلف رواية أو يدون مقالة لكن المنتج يحمل شارة البلدة التي جاء منها.
كتاب المغرب العربي ذهبوا في الآخر لغة وتماهوا معه ثقافة؛ إنه أدب فرنسي مقولب في إطار عربي بارد شأن بلاد الشمال؛ ولكل امريء مذهبه فيما يدون؛ لقد هضم العقاد الفكر الغربي لكنه لم يتميع فيه.
حتى إذا أمسكت بالقلم وسردت وجدت القرى والمدن والنيل والأهرام والأزهر والحسين والجامعة التي تقف شامخة كأنها عقل هذا الوطن؛ أنت في بلد عجيب امتلك شخصية عبقرية في الزمان والمكان؛ خيط دقيق أشبه بشعرة معاوية تصل بين مبدعيها من عذوبة وملاوة من طلاء على حد وصف أمير الشعراء الذي لفحته شمس
المحروسة فمزجت أصوله التركية والفارسية والكردية في سحنة
مصرية خالصة.
تجول في القاهرة الخديوية وروعة مبانيها واتساع شوارعها وهندسة ميادينها تجد نفسك في باريس لكنك تندهش حين تقف في ميدان التحرير فتشعر بدفء الوطن ولهيب عنفوانه في روعة المشهد وقد أشرقت الشمس ذات يوم!
حتى علب الصفيح وما يدب فيها ذات نكهة
مصرية خالصة؛ بمشاغبات نساءها ولعب فتيانها، في ذلك تعجبك مقولات النقاد الكبار تتماس مع روعة السرد وتجلياته.
شوارع القاهرة المملوكية ومباني الأسرة العلوية عالم آخر الحرملك والزمالك وباب اللوق؛ اخرج من القاهرة وتعال الإسكندرية المنشية والأزاريطة والأنفوشي وقصر المنتزه والإبراهيمية تاريخ وحكايات ومن ثم روايات وحكايات.
قريبا من هذا دار الهلال وحكاية جورجي زيدان وروز اليوسف والمبتديان وقصر العيني والعتبة الخضراء؛ وأم هاشم وجامع عمرو وصعودا إلى قلعة الجبل والمملوك الطائر فوق حصانه؛ سيوف وصهيل وقباب ومآذن؛ تارخ متفرد يحكي رحلة الإيمان وحلاوة القرب وصفاء القلب؛ والمجاورون في الأزهر يتقاسمون أرغفة وحبات الفول والعدل ويرابطون بعد حول شيخ العمود؛ جوهر الصقلي وشارع النحاسين وذهب المعز بوابة المتولي والغورية؛ دلني على سرد يكتب مثلما أفرد أهل
مصر تفننا ومهارة!