الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 22:56 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الدروانية .. إذ لا يفهمها المسلمون!

يحتل كتاب داروين (1809ـ1882)عن أصل الأنواع، والذي ظهر عام 1859، منزلة ربما تكون أكثر قداسة عند جماعات المصالح "اللوبي" في العالم الغربي المسيحي، من الكتاب المقدس ذاته!
الولايات المتحدة الأمريكية "الرسمية"، ترفض بشكل قاطع أية نظرية تنتهك حرمة "النشوء والارتقاء" كما وضعها داروين، كان آخرها إجهاض طلب تدريس نظرية "التصميم الذكي" جنباً إلى جنب مع "أصل الأحياء" في المدارس الأمريكية، ولو من باب "حرية التعبير"!
وفي عام 2004 صادرت فرنسا العلمانية، "أطلس الخلق"، الذي ينقض نظرية داروين. ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الإجمال تفرض حماية صارمة على النظرية، ولا تقبل المسَّ بمضمونها أو التشكيك بصحتها!
كان غريباً إلى حد الدهشة، أن يتشدد الغرب المسيحي "الرسمي" في التمسك بالتفسير الحرفي للدارونية، على الرغم من أنها لا تزال عند حدود "النظرية" التي لم ترق إلى درجة "الحقيقة" العلمية!
إن هدم هذه النظرية، يعني تقويض الأساس الأخلاقي والتسويغ "العلمي" الذي قامت عليه الحضارة الغربية، سواء على صعيد تطورها وحراكها الداخلي، أو على صعيد نظرتها وفهمها للعالم من حولها.
فالدارونية هي التي سوّغت "تميّز" العنصر الغربي واستعلائه على الآخر على أساس أنه الأفضل، ووفّرت له الغطاء الأخلاقي، لاستعمار مناطق شاسعة من العالم واستنزاف موارده، على أساس أن القانون الحاكم المطلق للعالم، يقوم على "الانتقاء الطبيعي": الفرز الطبقي والاجتماعي و العرقي والسلالي، وأن الطبيعة تتجه نحو تنظيف المجتمع من الفقراء والضعفاء وتخليص العالم منهم، لإيجاد مكان للأقوياء فقط.
الدارونية في نسختها الاجتماعية، لا تزال هي المرجعية التي تُستقى منها فكرة الديمقراطية، "الفرز" لاختيار الأقوى، وتقليص دور الدولة وحصره في حماية "الحرية الفردية".. وهذه الأخيرة هي التي تهمنا في هذا السياق.
بل يمكننا القول إن الغرب المعاصر بكل تجلّياته السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية، هو في واقع الحال صناعة دارونية محضة، بمعنى أنها وليدة منطق القوة والصراع والبقاء للأصلح والأقوى، حتى في التفاصيل "الأنيقة" التي تتخفى خلف أكثر شعاراتها نعومة وجاذبية.
فحرية التعبير ـ على سبيل المثال ـ سواء على مستوى "المعنى" أو على مستوى "التوظيف"، لا يحددهما توافق وطني محايد، ولكن المحصلة النهائية لعملية فرز القوى المالية والاجتماعية والدينية والسياسية في المجتمع؛ إذ تفرز معها معنى خاصاً لحرية التعبير يعبر عن مصالح القوى المنتصرة، و تمكنها "شرعية الانتصار" من السيطرة على حدود وأسقف هذه الحرية.
لقد حاكمت عاصمة التنوير "باريس" عام 1998 روجيه جارودي على أحد كتبه!
وذلك لأن حرية التعبير هنا ليست "محايدة"، وإنما هي "منحازة" لمصالح الطرف الاجتماعي أو الديني أو الاقتصادي أو السياسي الأقوى، والذي تستقي منه تلك "الحرية" معناها وحدودها وسقفها أيضاً.
بالمثل فإن الدنمرك "الدولة" ـ على سبيل المثال ـ هي صنيعة الدارونية الاجتماعية، التي تفرض عليها عدم التدخل في "الحرية الفردية"، ومنها ما يُسمّى بـ"حرية الرأي"، فيما تظل الأخيرة، في نسختها الدنمركية الحالية، طليقة في المساحات التي تفتقر إلى قوى اجتماعية تحميها من الاستباحة مثل الإسلام بدرجة كبيرة، والمسيحية بدرجة أقل، فيما تُعتبر اليهودية الديانة الوحيدة التي لا يستبيحها أي تيار سياسي باسم حرية التعبير؛ لأسباب تتعلق بموازين القوى داخل المجتمع الدنمركي، الذي هو جزء من فسيفساء غربية واسعة لا تعترف ولا تحترم إلاّ "الأقوى".