الثلاثاء 24 ديسمبر 2024
توقيت مصر 20:43 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

رمضان ونفى فكرة (المؤسسة الدينية)

حين فرض الصيام على هذه الأمة العظيمة ..فرض كعبادة لا يحيط بها علما إلا الله وحده سبحانه وتعالى والمسألة قد تبدو فى طبيعتها بسيطة وعادية..لكنها ليست كذلك بحال من الأحوال ..إذ أنها تمثل شاهد من أقوى شواهد(الحرية) فى رحاب الله سبحانه..وصورة من أعظم صور(التحرر)من كل سلطان على الأرض إنها (حرية الإرادة)التى أطلقها الإسلام فى البشر بعد قرون من السيطرة والهيمنة عليهم بإسم الدين والكهنوت.     لكن العظمة تبلغ مبلغها حين تطالع الآية التى جاءت بعد آية الصوم الذى كما قلنا تتحق به حرية العبادة وعبادة التحرر.. 
ولنا هنا أن نتذكر قول العز بن عبد السلام (1181-1262م): كل أمر تقاعد عن تحقيق مقصوده فهو رد.. والقرآن العظيم بين لنا المقصد من تلك العبادة الجليلة (لعلم تتقون) ..والأصل أن التقوى محلها القلب.
لكن ما هى هذه الأية التى جاءت بعد آية الصوم؟ وما علاقتها بتلك العبادة الزكية التى لا يعلمها إلا الله ؟ .
إنها أية (إلغاء الوساطة) "وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون" كما قرأنا فى صورة البقرة ..يقول الباحثون أن من درجة قرب القرب , لم يأت الجواب على لسان الرسول الأكرم بل جاء الجواب مباشرة من الخالق العظيم لعباده(فإنى قريب)..ودليل ذلك الدعاء والإجابة فكرة الوساطة بين الخالق والمخلوق هى الأب الشرعى لفكرة(المؤسسة الدينية)..وما تتطورت عليه فى التاريخ الإنسانى غير المشرف فى الحقيقة. 
***** 
ليس أسوأ من تحول النعم إلى مألوفات ومن تحول المألوفات إلى عاديًات..إلى الحد الذى يغيب عن صاحب النعمة  أنها نعمة ..فلا ينعم بها من جانب ولا يشكر ويزداد عليها من جانب أخر..بل وقد يطاله الحرمان والمنع  وحديث الرسول الكريم إلى معاذ  فى ذلك بالغ الأهمية ..
أتحدث عن توصيته صلى الله عليه وسلم له بأن يدعو بعد(كل صلاة) بدعاء: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. 
لعل التحول فى تقدير نعمة رمضان وما يحمله من قيم كبيرة وعالية مما قد يفسر لنا ما آل إليه رمضان فى واقع الناس وحياة المسلمين  سواء كان تآمراً أم تغافلاً..أم الإثنين معا.. أشير إلى تلك الضوضاء الصاخبة  حول رمضان الصوم..ورمضان القرآن..ورمضان الدعاء .. ورمضان القرب.. إذ عليك أن تسمع طوال نهارك ونصف أمسايك أغانى رمضانية ومسلسلات رمضانية ومسابقات رمضانية ودورات رمضانية وإعلانات رمضانية وأكلات رمضانية ومشروبات رمضانية إلخ إلخ.. وشتى أنواع التناقض النقيض المنقوض.
وحديث الرسول الأكرم عن صائم ( ليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه)..شديد الوقع والنذير ليس فقط لمن لم يدع قول الزور كما جاء فى الحديث ..فالمعنى مفتوح  والنتيجة واحدة..ولعل مقولة العز بن عبد السلام التى ذكرت فى أول المقال أستندت الى فقه المعنى والمراد والغاية فى هذا الحديث الشريف ..رحم الله سلطان العلماء. 

**** 

لكن ما علاقة كل هذا بفكرة المؤسسة الدينية؟.. إنه (بولس) ..!! هكذا يقول لنا العلامة على عزت بيجوفيتش1925 -2003م (بظهور بولس إنتهى تاريخ عيسى البسيط المجيد وبدأ تاريخ الدين المؤسسة) قال ذلك فى أعظم كتب المكتبة الإنسانية عبر كل التواريخ (الإسلام بين الشرق والغرب) ولا أبالغ فى هذا الوصف إذ لك أن تتخيل أن شخص بحجم وقيمة وعقل وفكر(عبد الوهاب المسيرى1938 -2008م) يترتب على قراءته لهذا الكتاب (نقطة التحول الذهبية) التى أدركت حياته فتكون له تلك الحياة وكل ذلك المعنى الذى كان لها.. ولنا أيضا ..  

من يعرف كيف عاش السيد المسيح وكيف كانت حياته لا يمكنه أن يتخيل فكرة تلك المؤسسة المرعبة التى حكمت أوروبا وأباطرة أوروبا طوال القرون الوسطى بل يمكننا أن نرجع إليها أشياء كثيرة أضرت بالبشر وكان يمكن تجنبها .. ليس فقط الحروب الصليبية على بلادنا والتى استمرت من 1095 الى 1492م  وليس فقط التاريخ الدموى لما عرف بالاصلاح الدينى فى القرن  الـ16 وليس فقط لحربها الطويلة للعلم والعلماء .. إنما الأخطر أنها زلزلت فكرة الايمان الفطرى عند البشر فكان التحرر من قبضتها وهيمنتها  إنفلاتاً تاماً من الدين وقيم الإيمان إلى حد أن يقول الفيلسوف الألمانى نيتشه(1844- 1900م) جملته الشهيرة (إن أخر مسيحى .. مات على الصليب) والموضوع  كله تفاصيله مزعجة ومشينة وغيرإنسانية بالمرة..فضلا عن أن تكون دينية. وحاضر قاسى ما هو إلا نتيجة لماضى أقسى كما يقولون. 

**** 

كثير من الدراسات تشير الى أن تحول اليهودى الرومانى شاول الطرسوسى إلى المسيحية ليصبح بعدها بولس الطرسوسى وليصبح بعدها المؤسس الثانى للمسيحية !!.. بل ومن أكثر الشخصيات تأثيرا فى الفكر الغربى كله. هذا التحول وما ترتب عليه من مخالفة تامة تقريبا لبساطة المسيحية وقت ظهورها المبكر..يقول عنه العلامة على عزت : المسيحية كدين أخلاقى فى كل العصور موجودة فى الإنجيل.. أما المسيحية بأسرارها وخلاصها فموجودة فى رسائل بولس السبع الشهيرة .. ويضيف : الكنيسة ترجع إلى بولس.. والإيمان والأخلاق إلى عيسى عليه السلام .
المشكلة أن الكنيسة بعد أن تكونت أخذت كل الميراث الإدارى والتنظيمى للإمبراطورية الرومانية بما فيه ظلال وثنيتها الشهير.
نستطيع القول بأنه لا توجد فى الإسلام (مؤسسة دينية) لا بالمعنى  المسيحى ولا بغيره من المعانى ..فلا الإسلام يقبل ذلك بطبيعته العقائدية والتشريعية ..ولا العلماء سعوا إلى ذلك أصلا.. بل على العكس فلطالما كانت قوتهم الحقيقية فى البعد عن السلطان والجاه والمنصب ..هناك مؤسسة العلماء وما يتطلبه دورها من وجود هيئات علمية وبحثيه وتعليمية  تتوالى وتتوارث عبر الأجيال ..والدور العظيم لفقهاء الأمة وعلمائها تاج على رأس الحضارة الإسلامية عبر تاريخها الطويل .
**** 
سنرى دورا مريبا و كريها للبعض فى تطاوله على العلماء والشيوخ الإجلاء بدعوى أنه ليست فى الإسلام  مؤسسة ولا كهنوت..رغبة منه  بذلك فى استحضار التاريخ الأليم للكنيسة فى الغرب وبالتالى فالرجل يحمل مصباح ديوجين المنيرالمستنير.. ولا يريد إلا الخير المخيار للدين والناس..وهو فى الحقيقة كذاب ومشقوق اللسان ومدعى وتافه ومزيف ..سمعت أحدهم مرة يجيب على سؤال للبى بى سى : من يمولك ؟ فقال: (جمهورى ..الناس..)وتكفلت كاميرا المخرج وإبتسامة المذيعة بالرد عليه..ألم أقل لكم (منقوع)التفاهه ذاته أكثر قيمه من هؤلاء .
**** 
دعونا نختم بهذه التغريدة المنشورة الجمعة الماضية 4 رمضان لحبيب المصريين الطيب بن الطيبين فضيلة شيخ الجامع الأزهر د/أحمد الطيب والتى تقطر سطورها صدقا و فهما وقوة: التشدد ‏والتقصير كلاهما قبيح ومذموم لأنهما ‏يمثلان ‏خروجا عن الوسط الذي ‏هو العدل ومن يتشدد في دين الله ويغالي في أحكامه ‏فيحرم ‏على الناس ما ‏أحله الله لهم..أو يوجب شيئا لم يوجبه الله عليهم .. ليس بأحسن ‏حالا ولا ‏‏أفضل منزلة ممن يجرؤ على فتاوى أو آراء يزيف بها الدين ويعتدى بها ‏‏على ‏شريعة الله لقاء منصب أو مال أو جاه فيحل للناس ما حرم عليهم ‏أو يدلس ‏عليهم ‏في أحكام الحلال والحرام..كلاهما معتد على حرمة ‏الإسلام.. وكلاهما كذاب ‏يزعم ‏لنفسه حق التشريع في الدين بما لم يأذن به ‏الله.‏