الأحد، 28-03-2021
09:32 م
تظل الجماهير والبسطاء من الناس دائما هم المستوى الحقيقى لتمثيل
الاسلام بعيدا عن التنظيرات والفلسفات والتقعيدات(وضع قواعد) كما أنهم لديهم فطرة مدهشة فى التقاط الصدق والصادقين وتمييزهم عن غيرهم خاصة اذا ما طرقوا أبواب قلوبهم بالإسلام وخاطبوهم بما تفهمه صدورهم قبل رؤوسهم..وقد كان حاكم مصر الأسبق فى غاية اللؤم حين منع إقامة جنازة فضيلة الشيخ
الشعراوى(1911 -1998 م)فى القاهرة وطلب من أبنائه ان تكون الجنازة فى القرية(دقادوس/الدقهلية).. وأبناؤه لا يملكون رفضا بطبيعة الحال.. لنا أن نتخيل أن أحد أعظم من أنجبتهم مصر فى القرن العشرين وأحد أعلام الأمة الإسلامية كلها تقام جنازته فى الطرقات الضيقة لقرية صغيرة ..الرجل الذى نفذ بصدق وبساطة بالغة إلى قلوب وعقول كل المصريين وفتح نوافذ وعيهم ووجدانهم على كتاب الله(القرآن الكريم)القوة المركزية الراسخة في دائرة الإسلام عقيدة وإيمانا وفهما وفكرا وسلوكا .
وكى نعطى الموضوع كل زوايا نظره من الممكن أيضا أن يكون هناك من نصح الحاكم وقتها بذلك حتى لاتكون الجنازة(جنازة القرن)كله بحق..لا السيدة أم كلثوم ولا صاحب 5 يونيو ..ولا غيرهم ..وظنوا أن التيار الدينى سيستغلها فى صراعه السياسي على(السلطة)مع النظام وكان وقتها الصراع على أشده ..والشاهد على ذلك هو القانون 100 سنة 1993م لتنظيم انتخابات النقابات المهنية والذى أصدرة النظام ليضع النقابات كلها فى(الفريزر) ما يقرب من عشرين عاما قائلا بصوت خبيث :ألستم تتخذونها وسيلة ضغط وأداة لاثبات نفوذكم وقوتكم ؟ إذن فلا نقابات ولا انتخابات ..وكان الحاكم ونجله وقتها على استعداد لفعل أى شىء لمنع كل ما يؤدى إلى تقوية المجتمع الاهلى ومؤسساته .. فاستغل قصة التيار الدينى ومناكفاته السياسية وأغلق كل شىء بالضبة والضباب..وقطع كل شىء عن كل شىء حتى لم يبق للبلد والناس أى شىء.
لكن الحاصل أنه كانت هناك حالة تدين عام فى المجتمع بعيدة عن التنظيرات والتمخيخات ولم يلتقطها أحد ويجعل منها قوة إجتماعية/ أخلاقية صلبة تحمى المجتمع وتمنحة تماسكه ووحدته وتحافظ على أعرافه وثوابته .. حتى التيار الدينى القريب الشرعى لتلك الحالة الجميلة أخذها و دار بها حيث تدورأفكاره هو عن (فكرة الإصلاح) والتى كانت قد مر فوقها ألف بلدوزر من وقت ما أعلنت عن نفسها بقوة فى بدايات القرن الـ19 .. خرج إحتلال ودخل (إختلال ).. اشتعلت حروب ولعلعت هزائم .. ووقفت إسرائيل على كل باب ترقب وتترقب وتراقب .. وتم وضع (آفه على الكنافة)كما يقول المصريون فى أمثالهم .. وتاهت الأسماء وأختفت العناوين وتغيرت الطرق وأصبح أى شىء يؤدى إلى أى شىء .. وكل الدروب تؤدى (هناك!!) كما قال القط شرشر لأليس فى أرض العجائب..وليس هاما أن يعرف أحد ماذا هناك ؟ فقط نسير ونسير ولا يبدو أمامنا إلا الطريق .!
وكنت قد كتبت عن رأى العلامة د/حامد ربيع(1924- 1989م) عن هذه الظاهرة(د/ربيع هو أول من أدخل الفكر الإسلامي إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي كان يتألق فيها الفكر الكنسي الكهنوتي كما قال..)كان رأى دكتور/ ربيع فى هذه الظاهرة والتى قالها قبل وفاته مباشرة 1989م فى مقال بمجلة الموقف العربى التى كانت تصدر من باريس ضمن سلسلة مقالات بعنوان(أمتى والعالم) وقال فيها : (..إن الإسلام عنصر قوة للمجتمع وأنه يعنى نظامًا للقيم التى ترفض عبودية الإنسان وتعلن عن حق المواطن فى رفض ومقاومة الطغيان..لذلك جرت وتجرى المحاولات الشريرة لاختلاق ما يساعد على الإصطدام به ؟! والسعي لإضعاف تأثيره فى النفوس والعقول بدعاوى كثيرة معروفة !؟) .. هكذا تحدث الرجل في نهاية الثمانينيات وكالعادة لم تصل إلى من كان يتوجب عليه الإنصات والتفكير الاسترتيجى لمستقبل الأمة..إذ لا إنصات ولا تفكير أصلا.. فقط الشعارات وزحام التعبئة وتعبئة الزحام..وبالفعل تم سحب(القوة الأخلاقية)التى يمثلها الإسلام العظيم فى منظومته للقيم والتربية.. والقوة النفسية فى رفض عبودية الإنسان للإنسان وقوته التأثيرية على العقول والنفوس وتحول إلى(حالة صدامية)مع سلطة الدولة وانصرف الناس وانشغلوا عن المفهوم العميق لمعنى الإسلام لله روحًا وخلقا وأسرة ومجتمعا ووطنا .. إلى متابعة تلك الحالة الصدامية التى تكونت وتكون حولها ما يدعو إلى الدهشة المريبة .
لكن دعونا نتعلق بالأمانى السعيدة وهى بالفعل سعيدة بل وأسعد المُنى .. فبنظره منصفة وعادلة وموضوعية سنكتشف أن الله حفظ للمصريين تدينهم وإسلامهم خلال القرن الأخير وحتى الآن بالأزهر والشعراوي و
إذاعة القرآن الكريم..وأذكر هنا علامة بالغة الهدوء والبساطة على تدين المصريين العميق الكامن تحت أصعب الظروف تحملا وتجملا وتعايشا ..فقد حكى لى أحد الأصدقاء أن زميلا لهم فى العمل يشترى كل شهر 30 عدد من مجلة الأزهر الشهرية (3 جنيهات) ويوزعها على زملائه..والحق أن المجلة تمثل زادا بديعا وسهلا وشاملا من الثقافة الإسلامية ..أما حبيب المصريين فلك أن تستقل وسيلة مواصلات عامة أو تاكسيا الساعة الثامنة الا ربع صباحا وستجد مصركلها تقريبا تسمع خواطر الشيخ
الشعراوى فى تفسير القرآن الكريم .
فعلا كل جوع وله خبز..وقد كان جوع المصريين للوعى بالدين والكتاب العزيز قد بلغ فى الستينيات حدا لا يحتمل ..ذلك أن أصدقائنا الشيوعيين بكل فصائلهم كانوا قد تصالحوا مع حاكم البلاد وخرجوا من السجون وفككوا كل تنظيماتهم السرية وذابوا فى أجهزة الدولة وأدواتها .. وأختاروا أخطر المؤسسات والأجهزة تأثيرا على الناس وهى الإعلام والأجهزة الثقافية كلها كليلا..فعلا لم يتركوا مكانا إلا واحتلوه إحتلالا.. وبدأوا يتحدثون عن الإشتراكية العربية والعلم والطبيعة والفراغ والتاريخ الذى لا يكرر نفسه أو حتى يكررها .. ثم انتقلوا بعدها إلى الهجوم على الإسلام ذاته والتطاول والسخرية.. طبعا سنتذكر أفلام ومسرحيات تلك الفترة والمأذون الشهير بملابسه البالية ولغته الفصحى التى ينطقها بطريقة مضحكة..هل تذكرون الممثلة فى مسرحية(أنا وهو وهى ) وهى تقول بسخرية عن أحد أقاربها المتوفين (أنتقل إلى الرفيك الأعلى)؟ ..أوممثل يُقبِل ممثلة وهو يصيح (سامحها يا رب)..وأكثر من ذلك فعله مثقفوا اليسار الذين كان يتسلى عليهم لينين(1870 -1924م) بجملته الشهيرة(المثقفون هم أقرب الناس إلى الخيانة)وهو بالطبع يقصد مثقفى فكرته هو صديقه ماركس(1818 -1883م) الذى تبعثر وتبخر وطار ..
جاءت
إذاعة القرآن الكريم فى هذا الزمن ووسط هذا الضجيج الملوث.. وإذا بكل بيت وحارة وشارع ودكان وسوق على مدار اليوم وإذاعة القران الكريم تصدح فى أغلب الوقت بالتلاوة بصوت الخمسة الكبار(الشيوخ الأجلاء :مصطفى إسماعيل والحصرى والبنا والمنشاوى وعبد الباسط ..وإذا بمذيعيها يصبحوا نجوما فى سماء الإعلام وإذا ببرامجها تكاد تُحفظ وقت إذاعتها والمقدمات التى تسبقها .. بل والضيوف الذين اكتسبوا شهرة واسعة من خلال هذه البرامج ..سواء كانوا من الأزهريين الأجلاء أو من المفكرين والعلماء . وأصبحت بحق وحقيقى أصدق استفتاء على(مزاج) الشعب المصري..فهى حتى يومنا هذا تتربع على المرتبة الأولى من حيث الاستماع وفق التقرير الذي أصدرته الإدارة المركزية لبحوث المستمعين والمشاهدين بالأمانة العامة لإتحاد الإذاعة والتليفزيون (حجم الاستماع ل
إذاعة القرآن الكريم 84.2% من حجم متابعي شبكات الإذاعة المصرية) وأكد التقرير أيضا زيادة حجم الاستماع لها نظرا لتعدد وسائل الاستماع من أجهزة الإستقبال الفضائي والهواتف المحمولة والإنترنت وغيرها و أن 57% يتابعونها بإنتظام من حجم الاستماع للإذاعة المصرية عامة .. وأن 95.6% من المستمعين يتابعونها من أجل التلاوة القرآنية والتى هى القيمة الأساسية في هذه الإذاعة ثم الثقافة الدينية .
إذاعة القرآن الكريم أحد أعظم إنجازات د/عبد القادر حاتم(1918 – 2015م) وزير الإعلام 1962م إبن البحيرة رحمه الله ..هذا الإسم الكبير الذى لا يكاد يذكره إلا القليل..تقول الحكاية أنه هو والشاعرالكبير محمود حسن إسماعيل(1910 – 1977م)صاحب قصيدة (النهر الخالد) والإذاعى والعالم الكبير د/ كامل البوهى(1924-1985م) كانوا أصحاب فكرة إنشاء إذاعة خاصة للقرآن الكريم .. ويذكر أيضا أن الأستاذ المسيقار مدحت عاصم(1909 -1989م) مدير الموسيقى فى الإذاعة كان قد كتب خطابا الى الرئاسة !! فى هذه الفترة مطالبا بتخصيص وإنشاء إذاعة خاصة للقرآن الكريم ..وحتى نعلم ونزداد يقينا أن لله جنودا لا يعلمهم الا هو سبحانه وتعالى ..سنتأمل كيف سُخرت هذه الأسماء للقيام بهذا العمل .. بل ولك أن تسأل : وما الذى دفعهم لذلك ؟ ولم تكن الفكرة لها سابقة بعد فى الإذاعات العربية؟..ليس هذا فقط ستجد نفسك تسأل أخطر ما الذى يجعل الموسيقار مدحت عاصم يكتب خطاب..و إلى من؟؟ إلى حاكم مصر ..ومتى ؟ سنة 1964م وكان وقتها الحاكم فى عز عزه حتى كاد يتصور أنه غادرالمجال الإنسانى وكاد أن لا يكون بشرا..كما قال له وزير خارجيته وقتها د/ محمود فوزى برواية أ/هيكل ..
وخرجت إذاعة القران الكريم إلى الدنيا والناس فى 25 مارس 1964م ..لتقوم بأعظم مسؤولية فى أسوأ وقت وفى أسوأ ظروف ..والتى نتمنى لها دائما أن تظل تقوم بدورها العظيم هذا ..تلاوة للمصحف المرتل وتعريف للبسطاء بشئون دينهم.. وتثقيفا للناس بثقافة الوسطية السمحاء.