الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 12:34 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

دولة الشركات..(طلعت حرب) في إسرائيل

تمتلك إسرائيل أكبر عدد من الشركات الناشئة فى العالم وتفخر فى المجتمع الدولى بأنها (أمة الشركات),, وتتميز تلك الشركات بصغر الحجم وتحقيقها إنتاجية عالية تؤثر بشكل كبير فى الإقتصاد الكلى وبالطبع تعود بأرباح هائلة,, (أصحاب الشركات) تهتم بهم الدولة اهتماما كبيرا وخاصة بتدريبهم وتطوير مهاراتهم وتوفير مصادر التمويل اللازمة لهم وتحويل كل الأفكار الجديرة لديهم إلى شركات ومشروعات مربحة ,, مما جعل تلك الشركات تشكل قوة اقتصادية ضخمة بل تكاد تكون الرافعة الكبرى للاقتصاد الاسرائيلى.
وقبل الدخول فى تفاصيل الفكرة سيكون هاما أن نعلم النظام السياسى المصرى فى الستينيات قرر أخذ كل الشركات من أصحابها وملاكها وضمها الى أملاك الدولة كما فعل بالأوقاف الاسلامية قبلها .
كانت فلسفة النظام تقوم على أن الجميع لابد أن( يتبع)الدولة ,, فلا استقلالية لأحد على الاطلاق الجميع (موظفين) عند الدولة ,,ملاك أراضى أم رجال صناعة أم أصحاب شركات..وكالعادة وكما يحدث دائما يكون ما هو معلن وصريح غير ما هو حقيقى و فعلى,, المعلن كان تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفارق بين الطبقات اما الحقيقى والفعلى فكان هو القضاء التام على فكرة(المجتمع المفتوح)..وخاصة (اصحاب الشركات) وكبار ملاك الاراضى ورجال الصناعة و الرأسمالية الوطنية  .
وكانت هذه الخطوة هى نهاية قصة الاقتصاد القوى الناهض التى بدأها طلعت حرب فى العشرينيات واستمرت بنجاح مذهل ومتصاعد طوال 40 عاما ,, وطبقتها اسرائيل بعد قيامها 1948 بنجاح وتصاعد ,, لم ينقطع ولم ينكسر خط هذا النجاح بقرارات  حكومية مثلما حدث فى مصر فى الستينيات,, فكانت النتيجة أن اقتصاد اسرائيل الان من اقوى اقتصادات العالم( صادرات اسرائيل عام 2018 بلغت 110 مليار دولار) . 
فما هى الحكاية ؟
***
فى عام 2009 م شرح لنا كاتبان يهوديان الحكاية كلها ,,احدهما مستشار فى الخارجية الامريكية(دان سينور) والأخر صحفى اسرائيلى( ساول سينجر) فى كتاب بعنوان (أمة ناشئة: قصة معجزة إسرائيل الاقتصادية).
ترجم الكتاب  عام 2015م موقع سورى يشرف عليه مجموعة من الباحثين السوريين بجامعة حلب اسمه (أعرنى كتابًا) .
يتحدث الكتاب عن دور الشركات الناشئة فى نهضة الاقتصاد الإسرائيلى منذ نشأتها عام 1948م حتى اليوم بمعلومات حقيقية وتاريخية ,,فيشرح النشأة التاريخية لإسرائيل، والدور المجتمعي واسع النطاق للجيش كقاطرة تنمية ,, والخصائص السكانية للمجتمع الإسرائيلي المتعدد الثقافات والجنسيات وما حققه الاقتصاد الإسرائيلي من نجاح طوال السنوات الماضية رغم كل الحروب التى خاضها .
دولة مصطنعة اصطناعا صنيعا صنوعا ليس لها خصائص(الدولة التاريخية) ولا تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية، وتتواجد في بيئة عدائية وسكانها تقريبا كلهم يكرهون بعض ولا يجمعهم الا الاحساس بالخوف المشترك من العدو.. استطاعت هذه الدولة أن تحقق نجاحا اقتصاديا مذهلا ,, ويمتلك مواطنوها عدد شركات مسجلة في بورصة (ناسداك) أكبر من جميع الدول الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية والهند والصين مجتمعين لتصبح  بالفعل أمة الشركات ؟

***
يوضح الكتاب ايضا الوسائل التي تعتمدها إسرائيل في تأهيل مواطنيها ليكونوا قادرين على انشاء شركات، ولديهم القدرة على المبادرة و الابتكار والمنافسة من خلال إيجاد منافسة قوية ومنتجة بين الشباب وخاصة بإلحاقهم بالجيش الذي يعد مدرسة حقيقية للتأهيل للانتصار والنجاح في الحياة على المستويين الشخصي والمهني، ايضا تقوم الحكومة ومن خلال صناديق تمويل لبدء الأعمال  بمساعدة أى شركة ناشئة تعتمد المعايير المتبعة لهذه الصناديق ,,ما جعل هذه الشركات الناشئة قاطرة الإقتصاد الإسرائيلى..
*****
نفس ما فعله طلعت حرب وبالطبع فى البيئة السياسية والاجتماعية التى كانت فى عصره  انشأ طلعت حرب باسم المصريين ومن خلال تملك المصريين لبنك مصر ,, أنشأ ما يقرب من 20 شركة فى اقل من عشرين عاما (شركة مصر للطباعة/شركة مصر لصناعة الورق/ شركة مصر لحلج القطن/شركة مصر لصناعة السينما (ستديو مصر)..الشركة المصرية العقارية/بنك مصر الفرنسي /شركة مصر للغزل والنسيج/ شركة مصر لمصايد الأسماك/شركة مصر لغزل الحرير/ شركة مصر للكتان/ بنك مصر سوريا/شركة مصر للنقل والشحن/ شركة بيع المصنوعات المصرية/شركة مصر للطيران(كانت اول رحلة خارجية لها الى القدس سنة 1934)/ شركة مصر للسياحة شركة المصريون للجلود والدباغة/شركة مصر للمناجم والمحاجر/شركة مصر لصناعة وتكرير البترول شركة مصر للصباغة / شركة مصر للمستحضرات الطبية والتجميل) .لم يترك مجالا او نشاطا اقتصاديا الا وفتح ابوابه على مصراعيها للمصريين ..هادفا الى أن يكون نموذج نجاح عملى يتبعه المصرى ,, بعيدا عن الوظيفة الميرى وجمودها وركودها..هو نفسه قبل أن ينشئ بنك مصر أنشأ مع أحد اصدقائه محلا للبقالة  حتى يشجع المصريين على التجارة والنشاط ولا يتكالبون على الوظيفة ورغم انتقادات المحيطين به  كونه شخصية عامة إلا أن التجربة نجحت وشجعت الكثيرين على خوض مجال التجارة وقد تنازل بعد ذلك عن المحل لأصدقائه.
هذه الشركات  كانت ملك بنك مصر(وليست ملك الحكومة) البنك الذى ساهم كل المصريين فى انشائه عام 1920,, ومن الجدير بالذكر هنا أن البنك كان يقوم بإدارته مجلس إدارة(10 افراد) منتخب من الجمعية العمومية وكان  وكيل المجلس يهودى(يوسف قطاوى وهو بالمناسبة هدد أنه سيقطع اليد التى تأخذ يهودى مصرى واحد الى اسرائيل المزعومة)وكان معه فى عضوية مجلس الادارة يهودى أخر(يوسف شيكوريل) و2 من الاقباط .
المؤرخ الامريكى إيريك ديفيز كتب عن تجربة طلعت حرب كتاب بعنوان (طلعت حرب وتحدى الاستعمار. دور بنك مصر في التصنيع 1920 ـ 1941) الكتاب فى الاصل رسالة دكتوراه شرح فيها تجربة طلعت حرب في التنمية وقال :نجح الرجل في عقد تزاوج ناجح ومثمر بين الصناعة والبنوك حيث قام بنك مصر بتمويل الشركات الصناعية والإنتاجية ونهض بها مؤسسا قلعة مصر الاقتصادية ومقدما في الوقت نفسه منظومة اقتصادية متكاملة عاشت مصر في رحابها في النصف الأول من القرن الماضي).
***
وعودة لكتاب أمة الشركات الناشئة .. يذكر المؤلفان أن هذا النجاح ما كان له أن يكون ألا على ارضية علمية صلبة
فالتقدم يعنى تعليم وعلم(ثلاث جامعات إسرائيلية في قائمة أفضل 100 جامعة في العالم : الجامعة العبرية ومعهد التكنولوجيا ومعهد وايزمان) نسبة الحاصلين على شهادة جامعية  45%. وتنفق اسرائيل 4.7% من الناتج القومي على البحث العلمى ,, وهو أعلى نسبة إنفاق في العالم كله ,, الدول العربية تخصص للانفاق العلمى 0.2% .
يقول الكتاب ان لدى الإسرائيليين صفة ساهمت فى نمو الشركات لديهم وهى (خوتزبه) أى (الجرأة) بالعربية وهو مبدأ منتشر في الثقافة العامة فى المجتمع و يعتبرونه طريقة حياة كاملة ويقصد به المثابرة والجدل وتحدي الرؤساء ومواجهة الموظفين للمديرين وعدم قبول آرائهم إن كان فيها خلل أو خطأ ,, حيث تكون النقاشات القوية هي أفضل وسيلة لحل المشاكل سواء كان في المنزل أو في المدرسة أو فى العمل ,,أنت امام شخص يتمتع بحس المبادرة والسؤال والجرأة وهو ببساطة شديدة ما يحتاجه النجاح .
****
فى 25 نوفمبرالماضى مرت 78 عاما على وفاة ابو الاقتصاد المصرى الذى توفى عن 74 عاما ( 1867_1941) ولد بالقاهرة وتخرج من مدرسة الحقوق عام 1889 وعاش عمرا لا يقاس بالسنين وإنما بالساعات والأيام من كثرة وقوة ما تركه الرجل خلفه .
 سنتذكر انه كان عروبيا صادقا ,, ينتمى بكله لا بعضه الى الهوية الاسلامية ,,مدافعا عنها بقوة وفهم  وتحتفظ المكتبة العربية له بعدة كتب فى ذلك ابرزها رده على قاسم امين فى كتابى(تحرير المرأة) المرأة الجديدة) بكتابين (تربية المرأة والحجاب) وكتاب (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) وله ايضا كتاب (كلمة حق عن الاسلام والدولة العثمانية) و(تاريخ دول العرب والإسلام).. وكسائر زعماء النهضة والإصلاح والسياسة والفكر فى هذا الوقت كان يحفظ القرآن الكريم من طفولته .