الأحد، 05-01-2020
02:07 م
ياسر أنور
بعد وفاة المفكر السورى الدكتور محمد شحرور منذ عدة أيام، تباينت ردود أفعال كثير من متابعيه بين منبهر به وبفكره التجديدى ومعارض له مسفه لآرائه وأطروحاته، وهذه الثنائية الحادة فى الحكم على الأشخاص والمواقف والمذاهب الفكرية إحدى سمات العقل العربى الذى لا يعرف الدرجة الوسطى بين الأشياء، فهو أسير بين (إما..أو..)، ويأنف من استخدام عبارات مثل ربما، ولعل، ومن الممكن، وغير ذلك من العبارات التى يمكن أن تسهم فى كبح جماح (اليقين المزيف) لدى العقل الجمعى العربى والإسلامى الذى أشار إليه المفكر الفرنسى أندريه جيد فى إحدى رسائله إلى طه حسين.
وهذا الموقف الحاد و(المتطرف) أحيانا من أفكار وأطروحات دكتور شحرور يعيد إلى الأذهان الموقف من فكر سيد قطب الذى يراه الكثيرون مسئولا عن انتشار الفكر الدموى والتفكيرى فى العالم الإسلامي، ويراه آخرون مجددًا إسلاميًا، لكن الأزمة لم تكن فقط فى ردود الأفعال العاطفية تجاه المفكرين الإسلاميين، بل كانت فى البنية المعرفية لدى المجددين والمنظرين الإسلاميين بشكل عام فهم أنفسهم قد مارسوا نوعًا من الوصاية البطريركية على المتلقى العربى والإسلامى أثناء عرضهم لأطروحاتهم من خلال الكتب أو اللقاءات الفكرية، ولذلك فإن كلا الرجلين – شحرور وقطب- يمثلان إفرازًا طبيعيًا ومنطقيًا للبيئة الثقافية العربية التى لا تعترف بالتنوع، فاتجه أحدهما إلى أقصى اليمين، واتجه الآخر إلى أقصى اليسار، فصار جميع الناس عند شحرور مسلمين –وفق منهجه الخاص- بينما كان الناس عند سيد قطب كفارًا!
وإذا تأملنا اللغة والمنهج الذى تبناه كلاهما، فإننا نفاجأ بلغة إقصائية موغلة فى الحدة واليقين (المعرفي) الذى يمكن أن نصفه بأنه حالة من التطرف الفكرى لدى الرجلين. وقبل أن ندلل على كلامنا هذا من خلال نقل بعض ما تضمنته كتب شحرور وقطب، فإننا يمكن أن نتوقف أمام عناوين بعض مؤلفاتهم الفكرية باعتبار أن العناوين ربما تكون نوعًا من العتبات والمداخل لفهم المحتوى الفكرى والموضوعى كما يقول علماء نقد النصوص.
فبعض مؤلفات دكتور شحرور تحمل العناوين التالية: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة - دراسات إسلامية معاصرة فى الدولة والمجتمع – الإسلام والإيمان – نحو أصول جديدة للفقه الإسلامى (فقه المرأة- الوصية – الإرث – القوامة - تجفيف منابع الإرهاب – القصص القرآني- السنة الرسولية والسنة النبوية)، ومن ناحية أخرى فإن بعض كتب سيد قطب (باستثناء المؤلفات الأدبية والنقدية) تحمل العناوين التالية: التصوير الفنى فى القرآن – مشاهد القيامة فى القرآن- العدالة الاجتماعية فى الإسلام- معركة الإسلام والرأسمالية- السلام العالمى والإسلام – فى ظلال القرآن – المستقبل لهذا الدين- خصائص التصور الإسلامى ومقوماته – الإسلام ومشكلة الحضارة – معالم فى الطريق، ويمكن من خلال تلك العناوين أن نلحظ تركيز شحرور على تفكيك البنية المعرفية والفلسفية والتشريعية والأخلاقية للإسلام، من منطلق أن كل ما سبق كان خاطئا، وأنه وحده يمتلك الصواب.
وقد أشار شحرور نفسه فى مقدمة كتابه الكتاب والقرآن بقوله: "فإنه قد يراها ملايين الناس لمدة طويلة من السنين دون أن يلاحظوا أنها معكوسة. ومثل هذا حصل لأهل الأرض عبر مئات السنين عندما كانوا يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض.. حتى جاء شخص واحد، بشر منهم ومثلهم، وقال إن العكس هو الصحيح، وأن الأرض هى التى تدور حول الشمس"، وبعيدًا عن المغالطة العلمية فى محتوى ما قاله شحرور، ففكرة الدوران الأرض كانت مطروحة فى بعض الثقافات القديمة، فإن الأنا ego البارزة والمنتفخة هنا دون تواضع علمى وموضوعي، تنسف أطروحته من الأساس، فالبحث والتجديد لا يفترض خطأ ما هو مطروح مسبقا بهذا اليقين المزيف، بل يحاول أن يبحث عن موطئ قدم فى قافلة التجديد والتراكم المعرفى البشري، ولذلك جاءت النتائج التى توصل إليها شحرور (كارثية) فى بعض الأحيان، فالإسلام لا يستلزم الإيمان بمحمد، الصوم عنده ليس ركنًا من أركان الإسلام وكذلك الصلاة، ونسف كثيرًا من أسس علم المواريث، وقوامة الرجل، بناء على معطيات لغوية (مغلوطة) ومتطرفة. لكن (ربما) يشفع له أنه حاول تقديم الإسلام بشكل حضارى وعالمى يسع الجميع، لكن ذلك لا ينبغى أن يكون من خلال هدم الحدود الفاصلة بين الأديان والمذاهب.
وإذا انتقلنا إلى سيد قطب فإننا نجد منطلقًا مغايرًا، فقطب يضيق دائرة الإسلام حتى لا تسع كثيرًا من المسلمين أنفسهم، وقطب يدعو إلى (حاكمية) رومانتيكية لم تطبق على الأرض حتى فى العهد النبوى ذاته، ودعا أيضًا إلى خصومة مع المجتمع وعزلة عن الواقع، وهو ما مهد لبروز الحركات التكفيرية والدموية التى شوهت جمال وإنسانية الإسلام، وما زلنا نجنى (مخلفات) هذا الإرث التدميري. وهكذا تستمر أزمة الثنائية المتطرفة التى لم يتحرر منها العقل العربى حتى الآن حتى صار الناس جميعا (إما ..أو..)..ويبقى السؤال الذي نوجهه إلى القارئ العربي : مع من تقف و إلى من تنحاز ..سيد قطب أم شحرور ؟ الإجابة ( ربما) و (لعل) في العدد القادم .