«حمار سعد زغلول وصورة عبدالناصر».. مواقف لا تنسى لإمام الدعاة
الأربعاء، 17-06-202010:22 صمتابعات- الدويني فولي
تحل اليوم 17 يونيو ذكرى وفاة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي يعد من أشهر مفسرى القرآن الكريم في العصر الحديث بأسلوب بسيط يصل إلى كل قلب وعقل.
وولد الشيخ الشعراوي في 5 أبريل عام 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره، وفى 1926، التحق بمعهد الزقازيق الابتدائى الأزهرى، وحصل على الابتدائية سنة 1923، ثم التحق بالمعهد الثانوى وحظي بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيساً لاتحاد الطلبة، ورئيساً لجمعية الأدباء بالزقازيق.
وفقًا لمذكرات «الشيخ الشعراوي»، والتي نشرت في كتاب يحمل اسم «مذكرات إمام الدعاة» والصادر عن «دار الشروق» وكتبه محمد زايد نقلًا عن روايات الشعراوي نفسها بكلماته ومفرداته، هناك مواقف لا تنسي لإمام الدعاة منها:
مشاركة الشعراوي في ثورة 1919 يروي «الشعراوي» معايشته لأحداث ثورة 19 في طفولته فيقول: «كانت أحداث ثورة 19 تمر أمام عيوننا، أناس من مختلف الطبقات والطوائف، كبير وصغير، فقير وغني، متعلم وجاهل، كلهم تأخذهم عملية وطنية واحدة، كلهم مرتبطون مع بعضهم البعض ويعملون العمايل اللي هيه، أنا رأيتهم بعيني وهم يحملون عربات الدلتا.. وكانت بين بنها والمنصورة، وتمر على الرياح التوفيقي، ويلقون بها في الترع، ويقومون بفك القضبان جميعهم مع بعض، وكأنهم شخص واحد، ويأتي الإنجليز من معسكر لهم في بلدنا، ويرون ما جرى، ولا يجدون فردًا واحدًا يعترف على آخر.
كانت حمى وطنية تجتاح الجميع، وقد غذوا الأطفال في القرية التي نشأت فيها بهذه الوطنية، إلى أن تبين أثرها سنة 1930، وقت أن حكم إسماعيل صدقي البلد وألغى دستور سنة 1923، وعمل دستور سنة 1930، وزيف الانتخابات، وقريتنا دقادوس وجدت تعبيرًا عن وطنيتها أنه لابد أن تقاطع الانتخابات، وفعلًا قاطعت الانتخابات، نادى المنادي قبلها بيوم: (يا فلاحين، هاتوا أكل مواشيكم لأننا مش هنخرج بكرة من الدور، وانتوا يا عمال ياللي في ميت غمر، وضبوا أرزاقكم، هاتوا عيش من الطابونة، وكذا وكذا)، وأصبح يوم إضراب، والدور كلها مسككة، واللجنتان معقودتان بالبلد، ولكن ولا واحد يدخلهما، حتى نحن الصغار منعونا من الخروج.
وقوع سعد زغلول من فوق الحمار «كانت قريتنا تمتاز بسمتين.. أولاهما أنها تشترك مع كل بقعة على أرض مصر في تلك الحمى الوطنية التي فجرتها ثورة سنة 1919، والثانية أنها كانت تجاور قرية (مسجد وصيف) بلد زعيم الثورة سعد زغلول، والذي كان لا يمر علينا يوم إلا ونذهب إليه لزيارته.
وأضيف إلى ذلك واقعة أخرى خاصة، فقد حدث أن وقع سعد زغلول من فوق الحمار، وهو يحمله متجولًا في القرية، وكسرت ساقه، وفي الحال استدعوا له الأطباء، من القاهرة طبعًا، وتصادف أن كان في قريتنا أسرة تعرف باسم (المجبراتية) وكانت شهرتها واسعة، حتى النساء منها، في أعمال تجبير الكسور، وشارك كبيرها الشيخ سيدي أحمد أطباء القاهرة في علاج الزعيم، وسجلت لنا هذه المكرمة في علاقتنا معه، وأصبحت عادة متبعة للآباء أن يصحبوا أبناءهم معهم ليروا سعد باشا في قريته، فكنت أواظب على زيارته في صحبة والدي وعمي طوال فترة علاجه.
وأذكر من هذه الأيام أنه حدث أن حضر أحد الشعراء، وكان اسمه الجيهاري، وأراد أن يرى الحمار الذي أسقط من فوق ظهره سعد باشا، فأحضروا له الحمار، وكنت يومها في قرية الزعيم، وتساءلنا: (ما الذي سوف يفعله هذا الشاعر بالحمار؟ هل سيركبه أم سيضربه؟ وفوجئنا عندما أوقفوا الحمار أمامه ينشد فيه شعرًا قائلًا:
حمار الزعيم.. زعيم الحمير
على عرش ملك الحمير أمير
أقام الحمير له حفلة
وأعطوه قفة من شعير
فإذا كان للتاكسي صفارة
فإن النهيق مكان الصفير
وبالطبع، انطلقنا جميعًا نحن الصغار في الضحك».
قصة وشم الشيخ الشعراوي يعود «الشعراوي» لرواية تفاصيل طفولته، فيقول: «من هذا الزمن، أذكر أن من أهم الاحتفالات الدينية التي كانت تجمع آباء وأبناء قريتنا دقادوس (مولد العذراء)، الذي كان يقام في الأسبوع الثالث من أغسطس، وكان يقال إنها مرت بالمسيح في قريتنا، فأقيمت لها كنيسة عندنا، وكنا نعتاد في الاحتفال بهذا المولد أن تأتي إليه كل الطوائف لأنه كان من الموالد الكبيرة جدًا.
وكان من بين الذين يحضرون، هؤلاء الذين يدقون الوشم، وسبب هذا أن النيل في بلدنا كان واسعًا، ويغرق فيه أناس كثيرون، فوجدوا أن أنسب وسيلة لمعرفة الغرقى أن يدقوا وشمًا على أيديهم، وكان (مولد العذراء) أفضل وقت لدق الوشم، لأن أعدادًا هائلة من أبناء دقادوس والقرى المجاورة كانت تتجمع فيه.
وحدث أن ذهبت مع أصدقائي من شباب القرية إلى المولد، فوجدنا الرجل الذي يدق الوشم تحت الجميزة يخيرنا بين ما نريد دقه بالوشم، صورة بنت حلوة، وحاجات كثيرة غير ذلك، والتففنا حول رجل يدق الوشم بقرش، وكان في صحبتي اثنان من أصدقائي، دق لهما الوشم، ثم جاء دوري لكي أدق صورة طيور.
فوجئت بيد تشدني فجأة، وكان والدي، وكنت على وشك دق الوشم، ضربني وصحبني إلى البيت، وقال لي: (لا تقدم يا بني على شيء إلا بعد أن تشاور من يحبك، والذين معك عيال مثلك)، وسألني: (هل ستدرس في الأزهر وتحفظ القرآن ويبقى لك طيرتين هنا؟).
وبعد أن كبرت وأصبحت عالمًا، كان يذكرني ويقول لي معاتبًا: (تصور أن تكون عالمًا أزهريًا كما أنت الآن وعلى جانبي جبينك طيرتين هنا؟).
ووقتها، رأيت غيري ممن دقوا الوشم وأرادوا إزالته بعد أن كبروا ولكن ذلك كان مستحيلًا إلا باستخدام الأزميل، فقلت لنفسي: (يا سلام على الأقدار، لو لم يحضر والدي وأنا على وشك دق الوشم لكنت منهم). ومن يومها، ترسخ إيماني بألا يناقش العبد قدره، فقد يراه ضارًا به، أو يمنع عنه شيئًا طيبًأ، كما كنت أرى في صغري وقت أن جاء أبي إلى تحت الجميزة على غير موعد، بينما كان القدر يخبئ لي ما هو أفضل ألف مرة، بأن ينقذني في كبري من وصمة الوشم».
كتبت تحت صورة عبدالناصر «غدًا تتوارى تحت سراديب من مضى» فخاف شيخ الأزهر.
«عندما أصبح الشيخ عبدالرحمن حسن شيخًا للأزهر، وأنا مديرًا للأزهر، جاءوا بصورة لجمال عبدالناصر، وهو يصلي، ووضعوها في مكتبه، ووجدوا أن هذا يكون مناسبًا، وقال لي شيخ الأزهر: (ما تكتب لنا كلمتين نضعهما تحت الصورة الواقفة دي).
فسألته، وكان يحبني جدًا: (هل هذا توجيه أم تطوع بالنفاق؟).
فضحك، وقلت له: (طيب أنا حكتب كلمتين، لكن بشرط، أنك تكتب ورايا بخط إيدك).
والتقط ورقة وقال لي: (موافق، أنا هكتب).
فقلت له: (إذن اكتب بخط واضح).
والله يرحمه كان من أبناء الأكابر، وأمليته:
(غدًا تتوارى في سراديب من مضى
ويمضي الذي يأتي لسردابكم حتما
ولن يقف الدولاب والله دائم
فليتكم لما.. تذكرتموا لما)
وفوجئت بالشيخ حسن يقول لي: (أبدًا.. لا أقدر على كتابة هذا ابدًا)».
ولقى ربه في مثل هذا اليوم 17 يونيو 1998 وخرج كل أساقفة الدقهلية لتشييع جثمانه، كما نعت الطائفة الإنجيلية الفقيد للعالمين العربى والإسلامى، واصفة إياه بأنه كان رمزاً أصيلاً من رموز الوحدة الوطنية، هذا هو الشيخ متولى الشعراوى الذي كتب شعراً في مطران كنيسة المنصورة، حين زار قريتهم، وتزامنت الزيارة مع عيد الأضحى فقال فيه الشعراوى: «اليوم حل بأرضنا عيدان..عيد لنا وزيارة المطران»، كما لم تكن كاتدرائية العباسية غريبة على الإمام، فكان يزورها في المناسبات المسيحية مما كان يثلج صدور المصريين.