الخميس 07 نوفمبر 2024
توقيت مصر 00:00 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

محاكمة "دونالد ترامب": القواعد والمغزى والمعطيات

محمد مسلم الحسيني
يمنح القانون الأمريكي رئيس أمريكا حصانه أمام الدعاوي القانونيه، فلا يجوز ملاحقته ومحاسبته أو محاكمته أوإعتقاله إثناء فترة حكمه للبلاد عند إرتكابه مخالفات قانونيه أو جنايات أو جنح. غير أن صلاحية محاسبه الرئيس أنيطت بمجلسي النواب والشيوخ إذ لهما القدره في التحقيق والتحري عن مخالفات وجرائم الرئيس، ومن ثم محاكمته وإدانته وعزله عن منصبه حال ثبوت إرتكابه جرائم أومخالفات سواء كانت قانونيه أو دستوريه. رغم أنه ليس كل الجرائم تعتبر سببا لعزل الرئيس في مجلسي النواب والشيوخ ولا كل إجراءات عزل الرئيس يجب أن يكون سببها جريمه، أي بمعنى آخر ليس كل جريمه تستوجب عزل ولا كل عزل يجب أن يكون سببه جريمه، فهناك جرائم لا تستوجب العزل وهناك تصرفات تستوجب العزل لكنها بنظر القانون ليست جرائم.
 إجراءات عزل الرئيس التي تتم من خلال مجلسي النواب والشيوخ تشبه الى حد كبير الإجراءات القانونيه التي يجريها القضاء  في التحقيق والمحاكمه. حيث أن هناك لجان قانونيه متخصصه في مجلس النواب تقوم بإجراءات التحقيق، من جمع معلومات مفيده وإستدعاء شهود والإستماع لهم إضافة الى إستشارة أهل الإختصاص من أكاديميين وأهل الخبره والمعرفه. بتراكم المعرفه الصحيحه وبوجود أدله دامغه تثبت تورط الرئيس بجرائم أو مخالفات دستوريه معززه بشهادات موثوقه وحقائق موثقه، يجري مجلس النواب على أساسها تصويتا على عزل الرئيس مستندا الى لوائح الإتهام المثبته والمدعومه بالبراهين. بمعنى آخر يقوم مجلس النواب من خلال تحقيقات لجانه الخاصه بدور "المحقق". حينما تكون الأغلبيه البسيطه " نصف عدد النواب+1" متفقه على قرار عزل الرئيس يرفع هذا القرار مع لوائح الإتهام الى مجلس الشيوخ. في مجلس الشيوخ تتم المحاكمه الفعليه للرئيس وتتم إدانته وعزله على شرط أن يصوت 67 في المئه من أعضاء مجلس الشيوخ على قرار الإدانه والعزل، أي أن مجلس الشيوخ يقوم هنا بدور "الحاكم" الذي ينطق بالحكم النهائي.... ليس من الضروري أن يأخذ الحاكم "مجلس الشيوخ" بوجهة نظر المحقق " مجلس النواب "! فلحد هذا اليوم لم يعزل في تأريخ أمريكا رئيسا أمريكيا واحدا رغم أن مجلس النواب رفع لوائح الإتهامات الموثقه لمجلس الشيوخ!   
التحقيق في مجلس النواب أظهر ومن خلال الوقائع والشهود بأن "ترامب" إستغل منصبه كرئيس لأمريكا في محاولة للحصول على منافع إنتخابيه  شخصيه نحو السباق الإنتخابي المزمع خوضه في 2020م، وكان ذلك من خلال الإستعانه بدول أخرى من أجل الحصول على معلومات مشينه ومخالفات مفترضه أتهم بها غريمه الإنتخابي " جو بايدن"، وكانت أوكرانيا هدفا رئيسيا لجهود الرئيس بهذا النحو. كما أتهم الرئيس أيضا بأنه تعامل باسلوب المقايضه مع رئيس أوكرانيا فجعل الإفراج عن حزمة المساعدات الماليه الأمريكيه المحجوزه لأوكرانيا ثمنا تقايضيا لفائده خاصه يجب أن يقدمها رئيس أوكرانيا له، وهو التحقيق في فساد مزعوم لمنافسه الإنتخابي "بايدن"، ويعني هذا في المصطلح القانوني " الرشوه". إضافة الى لوائح إتهام أخرى تخص إعاقة تحقيقات اللجان القضائيه والأستخباراتيه والشؤون الخارجيه وغيرها من اللجان في مجلس النواب وذلك لمنع الشهود من الإدلاء بشهاداتهم وحجب الوثائق الهامه التي داعت بها تحقيقات هذه اللجان. وقد كان من الممكن أيضا إدراج محاولات "ترامب" في إعاقة القضاء حسبما جاء ذلك في مذكرات التحقيق الذي قام به المحقق القانوني الخاص " روبرت مولر" في دور روسيا وتدخلاتها بشأن إنتخابات عام 2016م.  وهكذا فلوائح الإتهام المزمع التصويت على أساسها لعزل الرئيس في مجلس النواب، قبل نهاية شهر كانون اول " ديسمبر" الحالي وربما خلال فترة أعياد الميلاد، قد أختزلت مؤخرا بفقرتين فقط وهما : " إستغلال السلطه وعرقلة تحقيق لجان مجلس النواب المختصه". 
 في تأريخ أمريكا السياسي حصلت ثلاث إجراءات لعزل الرئيس وستكون إجراءات عزل "دونالد ترامب" هذه هي الرابعه في هذا التأريخ. الأولى كانت عام 1868م ضد الرئيس الأمريكي "أندري جونسون" بسبب خرقه للقانون الإتحادي، والثانيه عام 1974م ضد "ريتشارد نيكسون" في فضيحة "ووترغيت"، والثالثه عام 1998م ضد "بيل كلينتون" في قضية "لوينسكي". لم تفلح كل من هذه الإجراءات لعزل أيٍّ منهم. لم يصوت مجلس الشيوخ على عزل الرئيس في قضية "أندري جونسون" وقضية "بيل كلينتون" بينما أستقال "ريتشارد نيكسون" قبل محاكمته. هنا يتساءل المراقب هل هذه المره ستفضي إجراءات العزل الى إدانة وعزل الرئيس عن السلطه ليكون أوّل رئيس جمهوري في تأريخ أمريكا يعزل عن منصبه!؟.
في ظل الظروف التي تبيّنها المواقف والأحداث على الساحة السياسيّه الأمريكيّه، فأنه من غير المعتقد أن تفضي إجراءات العزل الجاريه حاليا الى إدانة الرئيس وعزله عن منصبه، ذلك للأسباب الهامه التاليه : يتحكم في مجلسي النواب والشيوخ الحزبان الأمريكيان الرئيسيان وهما الحزب الديمقراطي المعارض حاليا والحزب الجمهوري الحاكم. الحزب الديمقراطي يحظى بأغلبية مقاعد مجلس النواب وأغلبية أعضاء مجلس الشيوخ هم من الجمهوريين. أي بمعنى آخر "المحقق" ديمقراطي و"الحاكم" جمهوري، ومهما جاء المحقق بثبوتيات الجريمه، فللحاكم القول الفصل...! السؤال الذي يطرح نفسه دائما : هل الحاكم الذي سيوجه الحكم بشأن المتهم "ترامب" سيكون عادلا في حكمه !؟. الجواب سيكون على الأغلب وفي ظل المعطيات الحاليه هو " النفي" !. 
من المتوقع أن تصدرمحكمة مجلس الشيوخ حكم البراءة لدونالد ترامب رغم ثوابت الخلل والخطأ الواضحه والمخالفات الدستوريه المثبته، لأن روح العداله والموضوعيه غابت عن فضاء السياسه الأمريكيّه أمام المصالح الحزبيه وأمام التعنت والإنقسام في الرأي والرؤى في امريكا خلال فترة حكم "ترامب". هذا التغاضى عن عين الحقيقه والتمادي في تجاوز القانون ليس  ظاهره سياسيّه محصوره بمجلس النواب والشيوخ فقط، بل نرى مداها يتعدى مجالس الدوله ليصل الى الشارع ومن فيه. أمريكا شعبيّا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، منقسمه على نفسها بين موالٍ لترامب بشكل أعمى فلا يرى الجنح ولا يشعر بالجنايات، وبين معارض له يتفهم خطورة خطاباته وتصرفاته وتجاوزاته. الإنقسام الحاد في رأي الشارع شجع بإنقسام ممثليه في مجلسي النواب والشيوخ الى الحد الذي يجعل المتابع لا يصدق بأن أعظم دوله في العالم وأكبر مشرّع للديمقراطيه- كما تزعم - تبدي إشارات خفيه وواضحه على خطر إنهيار الديمقراطيه أو ضعضعة أسسها ! 
ليس هدف الديمقراطيين الواقعي من وراء إجراءات عزل "ترامب" هو إدانته وعزله وإخراجه من حلبة السلطه، لأنهم على ثقه وإطلاع تام بأن قرار العزل سوف لن يصدره مجلس الشيوخ لسبب بسيط وهو أن غالبية الأعضاء في المجلس هم من الجمهوريين، والجمهوريون واضحة مواقفهم إزاء عملية العزل وواضحه تعاملاتهم مع أخطاء الرئيس!. هنا قد نتساءل : "ما هو هدف الديمقراطيين إذن من وراء كل هذه الإجراءات المضنيه والمكلفه التي تحملتها الدوله من بحث وتحري ومساءله وتحقيق، إن باتت براءة الرئيس أكيده أمام محكمة مجلس الشيوخ "!؟. الجواب يكاد يكون واضحا أمام السائل وهو أن هذه الإجراءات القانونيه التي أتبعها الديمقراطيون هي تنفيذ لما تتطلبه المسؤوليه المناطه على عاتقهم كحزب معارض في مراقبة سلوكيات الرئيس والتفاعل والإحتجاج على تصرفاته المنحرفه بما يلزم. هذه سمه من سمات الديمقراطيه وملزماتها، إذ أن سكوت الديمقراطيين يعني قبولهم وموافقتهم بالأمر الواقع وقبولهم بمخالفات الرئيس للقانون والدستور!. هذا سيكون خللا تأريخيا يبقى يلاحق الحزب الديمقراطي الأمريكي الى أجل غير مسمّى!. ومهما يكن من أمر، فالحكم النهائي لبقاء ترامب على رأس هرم السلطه سيصدره الشعب الأمريكي نفسه في إنتخابات عام2020م المقبله، والتي ستبين نتائجها أمرا من أمرين : إما رحيل "ترامب" النهائي عن السلطه والتكفير عن أخطائه التي طالت بقاع العالم في أثرها وتأثيرها....أو بقاء هذا الرجل بالسلطه لدورة ثانيه وهذا يبرهن بأن الشعوب هي التي تصنع الدكتاتور وستستمر دوامة "ترامب" المضنيه  ربما الى أجل غير مسمّى! وعندها سيكون لتحليل أحداث قابل السنين بقيّه .....!