الأحد 24 نوفمبر 2024
توقيت مصر 21:23 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

"لا تحسبوه شرا لكم"

أسامة شحادة
لا يزال القلق والخوف يتصاعدان في العالم مع توالي انتشار فايروس كورونا الجديد (كوفيد 19)، وكلما تصاعدت أرقام الإصابات والوفيات اتخذت قرارات صعبة على الناس تبدأ بغلق ومنع بعض النشاطات والمنشآت العامة إلى الحظر العام للتجول، وقد تبين أنه كلما كانت الدولة والحكومة سباقة للحزم والوقاية والاحتراز  كانت أحوالها مع الأزمة أحسن على الغالب.
والمسلم والمسلمة يجب أن تكون نظرتهما في التعامل مع هذه الأزمات العالمية منطلقة من مرجعيتهما الإسلامية المستندة للوحي الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، وهذا الانطلاق من المرجعية الإسلامية هو أساس تباين المنظور العقدي الإسلامي مع المنظور العلماني المتعدد لتلك الأزمات الواقعية.
ولعل أزمة فايروس كورونا العالمية اليوم تشكل مثالا قويا جدا لحقيقة الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والدين والعلمانية، ففي الوقت الذي شعر فيه أنصار العلمانية بأنهم وصلوا إلى (نهاية التاريخ) أو امتلاك القوة الكاملة كما ينسب للرئيس الصيني، جاء فايروس حقير فزلزل قوتهم وضعضع أركانهم.
وبينما كانت الدعوات تتوالى بضرورة نبذ الأديان وخاصة الإسلام وحتمية إقرار قوانين عالمية تشرعن الفواحش والمنكرات والشذوذ كتعبير عن التقدم والتطور والعدل والمساواة، جاء هذا الفايروس ليرغم أنوفهم بأن القوانين العالمية التي تعم البشر وتعبر الحدود وتتخطى الفوارق هي من صنع الخالق وليست من صنع المخلوق.
 المنظور الإسلامي لهذه الأزمات العالمية -والتي ستتكرر بأشكال وصور متعددة طالما البشرية سادرة في غيها بعيدة عن حكم ربها- يقوم على أصل عظيم هو:
أن هذه الأزمات والابتلاءات في باطنها خير ورحمة للمؤمنين خاصة وللبشرية جمعاء بدرجة ثانية "لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم" (النور: 11).
وذلك أن أقدار الله عز وجل وأفعاله لا يدرك الإنسان ما وراءها من المنافع والمصالح العظيمة ولو كان ظاهرها شرا وضرا وألما وخسارة، وذلك أن المصالح والمنافع والسعادة في الإسلام لا تقاس بالمصلحة المادية فحسب كما هو الرائج اليوم في ظل عولمة أفكار المادية والحداثة التي حصرت المصلحة والمتعة بالأشياء المادية: المال، الجمال، القوة، المتعة اللحظية، الاستهلاك، لفت الأنظار، النفوذ.
كلا، المصلحة والمنفعة والسعادة تتعدى ذلك في الإسلام وفي الواقع، ولذلك نجد كثيرا من الأثرياء والمشاهير والمتنفذين يقدمون على إدمان المخدرات أو الانتحار أو يصابون بالكآبة والأمراض النفسية! وبعضهم يتخلى عن كل ذلك ثم يذهب يبحث عن الراحة والسعادة في تقليد مدارس اليوغا والتأمل الشرقية، والمحظوظ منهم من يسلم ويعرف طريق الإيمان الحقيقي بالله عز وجل.
وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر بيان لعظم الحكمة الربانية الخفية خلف بعض الأحداث التي ظاهرها الشر والفساد وهي قوله تعالى: "فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا" (الكهف: 71)، وقوله جل في علاه: "فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا" (الكهف: 74)، فهذين الفعلان (تخريب السفينة وقتل الغلام) ظاهرهما الشر والفساد، ولكن الخضر سبق له أن أخبر موسى عليه السلام أنه لن يصبر على أفعاله لأنه لا يدرك بواطن الأمور التي يريدها الله عز وجل "قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا" (الكهف: 66- 68)، وخبرا بضم الخاء هي المعرفة ببواطن الأمور.
وحين تقرر انفصال موسى عليه الصلاة والسلام عن الخضر جاء وقت الشرح والبيان للحكم الربانية الخفية وراء هذه الأفعال، فقال الخضر: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما" (الكهف: 79- 81)، ثم بيّن الخضر أن تلك الأعمال لم تكن تصرفات فردية من قبل نفسه بل هي أوامر إلهية: "وما فعلته عن أمرى" (الكهف: 82).
وبذلك تكشف لنا جانبا من الحكمة الربانية الخفية والتي لا تزال تحيط بالبشرية كل جانب وفي كل لحظة، ولو تأملنا بأزمة كورونا اليوم لوجدنا فيها منحا ربانية كثيرة برغم ما فيها من ألم وخسارة:
فالبشرية جمعاء كانت تحتاج لصدمة توقظها من غيها، ولعل في كورونا فرصة للناس لأن تعيد حساباتها وتعود لربها وتعرف أنها ضعيفة عاجزة، وسجلت دعوات بعض القادة والزعماء بالعودة للدين، وهي فرصة للدعاة بدلالة البشرية على الدين الخاتم الذي يحتوى كل ما ينفع الناس، فهو يأمر بالطهارة والنظافة، ويحرّم أكل الخبائث، ويحرم الفواحش والربا، ويأمر بالعدل ويحارب الظلم، وهذه كلها مصائب العالم.
وأيضا فكورونا قد يتسبب بضعف كثير من الدول والأنظمة المعتدية والظالمة وفي هذا خير كبير للعالم والبشرية.
وكورونا تسبب بوقف التلوث البيئي في العالم بسبب تغول عقلية الاستهلاك والكماليات على أرجاء الكوكب والتي تحفز ملايين المصانع لحرق الوقود الملوث، فصور الأقمار الصناعية الأن تكشف تبدد سحب التلوث، وكثير من القنوات والبحيرات عادت تظهر فيها الأسماك والطيور البحرية بعد توقف حركة السفن.
وكورونا كشفت للعالم أن المستهترين بنصائح العلم والمختصين بعدم الاختلاط، والحرص على النظافة هم ضحايا الوباء خاصة في أوربا، وهذا كشف أن تعظيم شأن المطربين واللاعبين على شأن العلماء والمختصين هو إحدى ضلالات العلمنة والحداثة.
كورنا سيكون سببا لقطاعات واسعة من المسلمين من العودة لربهم وترك ما هم فيه من ضلال بعد أن شاهدوا حقيقة الدنيا وضعفها وانخداعهم بالحضارة العصرية بقوتها وفتنتها، وأيضا سيكون سببا لعقلاء الساسة بتطوير الأداء العام وتطوير ما كشفت عنه الأزمة من حاجة لتقليص البيروقراطية والروتين وتسريع الأتمتة والخدمات الإلكترونية في الخدمات الحكومية، وأيضا سيعزز كثيرا من المظاهر الإيجابية في سلوك المجتمع وخاصة الحرص على النظام والالتزام به والتكافل والتراحم.
فايروس كورنا هو محنة وبلاء بيد كل فرد ومجتمع ودولة أن يحولوه لمنحة وخير إذا جابهوه بالإيمان الصحيح والتوبة والاستغفار واتخاذ الأسباب الصحيحة للوقاية منه والعمل على التطوير والتحسين  لمواضع النقص في إدارتنا الحكومية وسلوكنا المجتمعي.