الجمعة، 06-03-2020
04:08 م
أشرف غازي
أحسست يوماً وأنا في الجامعة، بأني أستطيع الكتابة لأُعبر عما بداخلي وما يجول في خاطري، أحببت ان أصف الحال والمكان، دون تفلسف أو تحذلق، فخرجت تلك الكلمات التي كتبتها من زمن فات.
كان يوما تلتهب فيه الحرارة من شدتها وكأن الشمس سأمت عادتها التي جبلها الله عليها وأسقطت أشعتها عامودية دون تردد ولا تدرج، وقد اجتاحني احساس بالعطش كأن الحرارة قد بخرت ما تبقى بداخلي من ماء.
لم تكن الشمس محرقة فقط، بل كنت أرى غمامة سوداء تغطي المكان فصبغته بلونها، ففي اي اتجاه أنظر إليه أراه قاتم اللون، وكأني في هذه الحالة كأرنب يطارده ثور أسود ناري أفزعني سواده كما أفزعني لهيبه وهو قادم لا محالة.
ولم تكون الحرارة والعادم بعدها سبب عنائي ولكن أيضا الأصوات الصاخبة المبعثرة في كل مكان حولي قد أحدثت انعدام في أذواقنا التي بها نستطيع الرُقي، واحسست أنهم قد تكاتفوا ليفتكوا بنا كتكاتف العدوان الثلاثي على مصر، وأتمنى ردهم كما حاولنا رد ذلك العدوان.
وذهبت بنظري إلى من حولي لأجد فيهم ما يسرني فوجدتهم، إما شارد الذهن، أو غير مكترث، ولاهي، وهناك من بعيد من يطلق الكُحة كأنه شكمان سيارة مثقوب، وآخر عينيه حمراء كالفانلة التي يرتديها ومنهم من لم يكتفى بصيحات السيارات فأخذ يطلق صيحاته ليروج لسلعته، وآخر يمد يده ينفطر القلب من منظره.
ولكني رأيت الناس من حولي قد اعتادوا تلك المناظر فلم تعد القلوب تتأثر بسهولة حيث تاهت الحقيقة، وهناك بالجانب الآخر امرأة تجر أطفالها في سرعة تترقب لتعبر الطريق كالشاة التي تخاف على صغارها من الذئاب المفترسة التي لا تتوقف وانظر هناك لأرى كل يتسابق مع الزمن.. هذا يجري ليلحق بأتوبيسه الممتلئ عن أخره أملاً في أن يجد مكان لقدم واحدة تحقق له أمنيته في الذهاب إلى مبتغاه.
وأتعجب هل تحولت الآمال لمجرد ركوب أتوبيس؟! ويا ليتها سهلة المنال!
وتبصرت من بين رؤوس كثيرة ضالتي ألا وهو ترام "عبد العزيز فهمي"، الذي كان يسير متمايلاً متبختراً يمنة ويسرة وكأنه سكير قد ملأ بطنه.. وفجأة! وجدت نفسي كريشة تدفعها الرياح بلا مقاومة إلى مقعدها وقد حمدت الله على جلوسي على مقعد أسفنجي كأنه حزمة قش في مضرب أرز يحيط به أشولة حبوب وأصوات صاخبة وأدخنة خانقة...
ووسط هذه الفوضى وقعت عيني على هيكل إنسان!! برزت ضلوعه حتى إنني أراها وأستطيع عدها، تُرى ضربات قلبه وهو يعاني سوء التغذية ولهيب الشمس وعلوت بعيناي فإذا بي أرى جمجمة ذا بقعتين عميقتين يحاط بهما ظلام، فنظرت إلى فمه فوجدته مدخنة تدفع بأدخنتها خارجها وهو يطلق طلق ناري من شدة الكحة وضيق التنفس وراقبته في دهشة وهو يدخن واحدة تلو الأخرى وكأنه اعتاد التلوث وأخذ بجريدته ويداه ترتعشان وهو يقرأ بصوت أقرب إلى الخفاء وتركته بعيني لحظة!
وفي نفسي شيء من القلق لهذا الشيء الغريب الذي ينتاب الكون وليس هو فقط بل والبشر وليس هم فقط بل والأرواح أيضا... وفجأة.. انتابتني هزة فزعتني وكأني أفقت من كابوس في ليلة مظلمة.. ولم يكن ذلك إلا توقف "عبد العزيز فهمي".. وإذا بالرجل الهيكل يحاول الوقوف كلاعب ملاكمة بعد قذيفة في وجهه أسقطته.. وسار الرجل وأنا أراقبه في لهفة إلى أن دنا فسألته من النافذة وفي شوق لمعرفة الإجابة.. أين تسكن؟ فقال لي بخمول: "شارع رمسيس".