الخميس 21 نوفمبر 2024
توقيت مصر 18:29 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

هذا الخٌبز ليس للبيع..

لعل مما يلفت الإنتباه فى الثقافة الإسلامية موضوع(إطعام الطعام)والذى يذكر هكذا فى النص القرآنى لتمييزه  عن إنفاق المال سواء كان فريضة(زكاة)..أو غير ذلك من الصدقات..قرأنا ذلك فى سورة : الحاقة والإنسان والماعون والبلد ..بل وأقترن الإطعام والحض عليه بالايمان بالله العظيم والتصديق بيوم القيامة.. وهو ارتباط بالغ الدلالة والإشارة إلى مدى أهميته .. إذ ما الإعتقاد الصحيح إذا لم يكن إيمانا بالله واليوم الأخر.  

والحقيقة أن الوعى بمسألة (العطاء) و(الإنفاق) فى نطاق العمل الصالح يجعلهما فى درجة عالية جدا من درجات السعى للأخرة..ونعلم عن الرسول الكريم قوله :ما آمن بِي من بات شبعانا وجاره جائع ..وحين سٌأل: أي الإسلام خير؟ قال: تٌطعم الطعام وتٌقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ( قارن ذلك بحالة  الحدة والتحفز فى معاملات الناس ببعضهم هذه الأيام !)..وحين سٌأل صلى الله عليه وسلم أيضا: أي شيء يوجب الجنة ؟! قال: حسن الكلام وبذل الطعام. 

وربط صلى الله عليه وسلم بين الإنفاق والإطعام وبين تحقق السلامة والعافية والستر فى الدنيا..والحديث الشريف صريح وواضح عن العلاقة بين الصدقة والشفاء والعافية..ويقولون فى الأمثال المصرية الحكيمة (اللقمة تمنع النقمة) أى رغيف الخبز(اللقمة) الذى نتصدق به قد يحول بيننا وبين كارثة (النقمة) كانت على وشك الحدوث.  

هذه هى ثقافتنا الأخلاقية والسلوكية فى الحياة اليومية ببساطة ووضوح.. وهى ثقافة موصوله بأعمق ما فينا وأغلى مافينا وأجمل ما فينا : ديننا وإيماننا وحبنا لله ورغبة فيما عنده..ولكم أن تتخيلوا تماسك وصلابة وحب و وحدة مجتمع يتنفس هذه الأخلاق مع أكسجين الهواء كل يوم بل كل ساعة ..  

**** 

تنتشر فى إيطاليا هذه الأيام _ويقال من قبل كورونا_ مبادرة سرعان ما لاقت قبولا وترحابا كبيرا بين الناس وبطريقة تدعونا نحن قبل غيرنا بقليل من الخجل وكثير من الحماس إلى النظر إليها..والبدء فورا بتنفيذها بيننا وأروع ما فى هذه المبادرة أنها ستجدى صدىً هائلاً بداخل أرواحنا وقلوبنا وبيوتنا الطيبة .. هل تتخيلوا أن الناس هناك تدخل المقاهى ومحلات البيتزا تشترى لنفسها واحدة وتدفع ثمن واحدة أخرى لمجهول !! والذى سيأتى بعدها ليقول :هل دفع أحدا كوبا من القهوة لى؟ أو هل دفع أحدا ثمن بيتزا لى؟
المهم أن الجميع كانوا فى غاية الرقى والاحترام للفكرة وتطبيقها.. الذى يتصدق سرا ويطعم الطعام سرا لشخص لا يعرفه ولا يراه..والذى يأخذها..والوسيط بينهما..ولأن الخير يأتى بخير وزيادة ..فقد فوجىء الناس فى مدينة نابولى بصاحب محل بقالة يضع صباح كل يوم خارج المحل كرتونة كبيرة بها أكياس خبز ومكتوب فوقها(هذا الخبز ليس للبيع ..إذا كنت بحاجة إليه خذه) المدهش أن من أخذوا _ كما يقولون _ لم يكونوا من المحتاجين والفقراء فقط ولكن أيضا من كبار السن الذين لا تكفيهم معاشاتهم للوصول إلى أخر الشهر .. 

**** 

وحتى الأن لم يستغل أحد هذا الموقف وينهب ويجرى بدون حاجة الى ما أخذ.. يقولون أن المبادرة فى حد ذاتها رائعة.. لكن الأروع منها هو تفاعل الناس معها بكل هذا الرقى والاحترام .. طبعا سيكون هناك بعض الخبثاء وقطاع الطرق الى الخير و الذين سيقولون كلاما أكثر خبثا مثل وهل تضمن أن يتم ذلك بشكل صحيح ؟ وماذا عن من سيستغلون الموقف؟ وسيثيرون فقاقيع خيبتهم على جمال الفكرة مشككين فى نزاهة كل الأطراف..فلا أحد رقيب على أحد..صحيح ..لن نستطيع معرفة من يحتاج ومن لا يحتاج ..والدنيا دائما فيها الطيبين والخبثاء من أيام سيدنا أدم وإلى أخر أدمى سيمشى على الأرض..سيكون هناك دائما صادقين ومحتالين ..لكن هذا لن يمنعنا من فعل الخير..ونية المؤمن خير من عمله كما فى الحديث..كما أن انتشار الفكرة واستمرارها سيتكفل بحسن تطبيقها.  

**** 

يقولون أن جميع أهل الحكم فى مصر منذ أيام محمد على حتى الملك فاروق أوقفوا أطيانا لا حصر لها على أوجه الخير فى المجتمع.. وتعد وقفيات الخديوي إسماعيل أكبر الوقفيات التي أنشئت في تاريخ مصر الحديث..كما يذكر الأستاذ الدكتور إبراهيم البيومى غانم فى كتابه الهام (الأوقاف والسياسة فى مصر) ويقول أن الأمير عمر طوسون كان من أكثر الأمراء عطاء فى ذلك . 

واذا كان الأمير عمر طوسون أمير بن أمير.. فقد كان كان المنشاوي باشا من الناس العاديين .. والذى كانت له مواقف وطنية رائعة ظهرت إحداها فى موقف خطير سنة 1903 م وقت الخديوى عباس حلمى الثانى حين اضطرت الحكومة لعرض جزء كبير من أراضى الدولة للبيع لسداد ديونها ..فاتفق المنشاوي مع كبار الأثرياء على شرائها بإيعاز من الخديوى ليقطعوا الطريق علي الأجانب الذين كانوا سيأخذونها ..واشتري المنشاوي باشا 4000 فدان أوقفهم كلهم لأعمال الخير .. 

كما ذكر العلامة د.ابراهيم غانم  أيضا أن إسهام متوسطى الحال فى العطاء كان حاضرا أيضا بقوة..ويكفى أن نعلم أن سيدة مجهولة أوقفت نصف قيراط تقام عليه طلمبة مياه تروى العطاشى فى المنوفية..                       هذه الظاهرة أختفت إختفاء خفيئا خفؤاً من عام ١٩٥٢ م . 

**** 

يقول الأستاذ الكبير فهمى هويدى فى مقال له بالشروق 5/12/2015 : ثقافتنا اعتبرت العطاء من أركان الإيمان فضلا عن أن لدينا( خبرة تاريخية)نعتز بها في هذا المجال..ويقول :المرجعية الإسلامية ممثلة في النصوص الشرعية تعتبر المال مال الله بالأساس وأن للناس حقا فيه(غير الزكاة)وهذه الخلفية فتحت الباب واسعا لمختلف صور العطاء التي كان (الوقف)أبرزها والنموذج العبقري لها..ويقول :العالم الغربي نقل عنا هذه القيم وحولها إلى أحد مصادر قوة المجتمعات وعافيتها ..فهنرى فورد مؤسس عائلة فورد زار مصر في أوائل القرن 19 وتفقد الأزهر والمنشآت الوقفية في مصر وعندما عاد إلى أمريكا أسس (فورد فونديشن)على غرارها.
أمريكيون آخرون درسوا نظام الوقف في الدولة العثمانية ونقلوه إلى بلادهم حتى أصبحت أهم وأشهر الجامعات الأمريكية تدار كلها بواسطة الأوقاف(56 جامعة أمريكية تدار بالأوقاف أشهرها هارفارد وييل ).  

 سيكون هاما هنا أن نتذكر أن بيل جيتس (صاحب شركة ميكروسوفت) تبرع بـ ٢٨ مليار دولار لمؤسسة (بيل ومليندا جيتس) المعنية بأبحاث الإيدز والملاريا والسل وتحسين جودة التعليم  وترك رئاسة شركاته عام ٢٠٠٨ ليتفرغ تماما للإشراف على أنشطته الخيرية. 

**** 

تقرير السعادة العالمي  الذى يصدر سنويا عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة أورد ترتيب مصرعام 2020م فى المرتبة  137 من بين 156 بلدا ..وتوقعت دراسة لمعهد التخطيط القومي عندنا أن تتسبب أزمة كورونا في ارتفاع معدل الفقر في مصر ليرتفع عدد الفقراء إلى 12 مليون خلال العام المالي 2020- 2021م إستنادا إلى توقعات مستويات البطالة والدخل والتضخم. 

لا نريد أن يطول الخيط فتضيع الأبرة كما يقول المثل..فقط علينا أن نتذكر دنيانا بأخرتنا..ونتذكر أخرتنا بدنيانا ولعل مبادرة أهل نابولى تلقى من يتبناها عندنا من أجهزة الإعلام والشباب على صفحات التواصل الجماعى .. والمسألة بسيطة جدا فى تطبيقها.. حين تشترى سندوتش أدفع ثمن سندوتش وأتركه لمجهول..وحين تشترى كيس خبز أدفع ثمن كيس أخر وأتركه لمجهول ..هناك أسر وبيوت حرفيا يمثل شراء الخبز لهم مشكلة كبيرة إذ يعتمدون عليه بشكل كبير فى إطعام أبناءهم .. 

وإذا كانت هناك سعة وقدرة أكثر نتذكر حديث الرسول الكريم (إذا أمرقت _طبخت_ فأكثر وتعهد جارك)..ونعد وجبة أخرى لمجهول ونرسل بها أولادنا إلى جائع ومحتاج..فنعلمهم  التعود على فعل الخيرات وطلبا للعافية والصحة لهم..والخيرعادة كما يقال..وأيضا سنطفىء نار(الشح والبخل)هنا..ونار(الحقد والحسد)هناك..ونسعد أنفسنا برحمات الله ونسعد البائسين لوجه الله (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).
والملفت أن هذه الأية وردت فى سورة(الإنسان)..ولعلها إشارة إلى إعلاء(الإنسانية)فينا بمثل هذه الأخلاقيات الراقية .