الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
توقيت مصر 12:47 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

عبد الملك بن مروان.. للتاريخ قانونه وللإنسان قدره

أنا أحد أشد الناس إيمانا بأن الله سبحانه وتعالى جعل للتاريخ قانونه الذى لا يتغير ولا يتبدل وأن حياة الإنسان وزمانه ومكانه هو قدر الله وإرادته ,, وكما يقول العلامة على عزت بيجوفيتش(كم هى محدودة تلك التى نسميها ارادتنا  وكم هو هائل وغير محدود قَدٌرنا) .
سطور التاريخ مليئة بآلاف التفاصيل التى يسميها علماء التاريخ (السياق)..وضع تحت هذه الكلمة ألف خط وخط ,, وجزء شديد الأهمية من تلك التفاصيل هو(المكنونات النفسية) للبشر وما يحملونه عبر تجربه حياتهم من تراكم ومواقف نفسية بالغة التركيب وتمت بألف صلة إلى الاحداث والبشر الذين هم قلب هذه الأحداث.
وكى لا نقع ضحية للتعميم البغيض فى قراءتنا وفهمنا علينا أن نعرف أحداث العصر_أى عصر_ والزمن الذى تسير على ايقاعه هذه الاحداث ,, حتى لا يكون كلامنا فائض لغوى يتجاوز الموضوع  ويتحول الى طبقات من الكلام المتراكم فى مخزن الذكريات الباردة كما يقولون ,, شىء غير جيد أن نقرا التاريخ بعين التقليد الكسول ,, مرددين نفس المقولات السائدة.. دعونا نرى علاقة كل هذا بالموضوع وعنوان الموضوع .
***
إنى نظرت فى أمركم فضعفت عنه , فابتغيت لكم مثل عمر, فلم أجد , فابتغيت لكم ستة فى الشورى مثل ستة عمر فلم أجد , فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من تريدون ,, كانت هذه الكلمات الأخيرة لـ(معاوية بن يزيد) بعد وفاة والده يزيد بن معاوية بن ابى سفيان 64 هـ..رفض الرجل أن يلى الخلافة بعد أبيه لأى سبب من الأسباب ,, وارجع الأمر إلى (الأمة)..لكن الأمة كان لها رأى أخر !.
ذاك ان الأمور العامة كانت فى حالة تأزم عام,, إضطراب وفتن واقتتال هنا وهناك ,,وأشدها كانت حالة عبد الله بن الزبير بالحجاز الذى رفض مبايعة (يزيد بن معاوية)ونادى لنفسه بالخلافة ووعلينا أن نقف هنا وقفه حازمة لننتبه أنه لم يوافقه على فعله هذا عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن على(بن الحنفية) أخو الحسن والحسين من أبيهم على بن ابى طالب ..
لكنه استمر فى دعوته ,, وتكون له انصار وأصحاب فأرسل إليه (يزيد) جيشا دخل المدينة وقاتل أهلها(موقعة الحرة)وحاصر مكة ,, وأثناء ذلك مات( يزيد) ورفض ابنه معاوية استلام الحكم كما ذكرنا أولا..
فرجع جيش يزيد إلى الشام مصطحبا معه أبناء البيت الأموي الذين كانوا فى المدينة وعلى رأسهم (مروان بن الحكم)وابنه عبد الملك الذى كان فى الأربعين من عمره ,, إذ كان عبد الله بن الزبير قد قرر نفيهما من المدينة التى مكثا بها أربعين سنة  وكان مروان نفسه واليا عليها طوال عهد معاوية حتى عزله(يزيد)..                           

***
ستحكى لنا كتب التاريخ ان الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان بن الحكم الذى لم يبايع معاوية(ومع ذلك عينه واليا على المدينة!..ألا يستحق معاوية أن يوصف بأنه كان أعظم الساسة فى كل العصور كما وصفه أنيس منصور) ولم يشارك فى موقعة(الجمل) ولم تكن له اى علاقة بمقتل الحسين واستنكره بشدة وأنذر من عواقبه ,, بل كان قد اعتزل الحياة العامة تقريبا بعد ان عزله يزيد ,,أما ابنه الواعد عبد الملك فقد تفرع للعلم والتفقه والعبادة.
خرج مروان إلى الشام منفيا أو مطرودا.. وكان يريد قضاء ما تبقى له من حياه في هدوء لكن قرار(عبد الله بن الزبير) بنفيه أو طرده كان قدرا مقدورا ,, ليتم فتح صفحة كبيرة فى كتاب التاريخ اسمها (عبد الملك بن مروان) .. واذا كانت أهم عوامل القوة لأى (حركة جديدة) فى التاريخ هى : مجموع الميراث التاريخى(بشر وأحداث)/ و الثقافة الدينية/ والصفات الشخصية لقائد هذه الحركة ,,فقد كان لعبد الملك من كل ذلك نصيبا كبيرا.
تخيلوا لو كان بن الزبير سياسى محنك يجيد المصانعة والمداراة  والاحتواء ,, أفما كان يجدر به ان يتركهم فى بيوتهم لا لهم ولا عليهم بل ويكرمهم ويحسن جوارهم.. ولكنه للأسف صنع نهايته بيديه ,,فأخرجهما ليتلقفهما أهل الشام..لتمر ستة أشهر فقط من قدومهما  ويتولى مروان الخلافة فى دمشق ,, يقولون فى السياسة اذا لم تستطع ان تحول عدوك المنهزم إلى حليف لك فأنت لم تنتصر.
***
كان مسرح الأحداث فى الشام يهيئ نفسه تهييئا هيوئا مهيئا  لإستقبال البيت المرواني , جيلا بعد جيل..لتتكون على الفور شبكة العلاقات والرجال الأقوياء وليتكون خلف كل ذلك تيارا سياسيا منظما ومتكاملا ,, وهكذا التاريخ  وهكذا الدنيا وهكذا الأقدار تتهيأ لأبطالها ورجالها كما تتهيأ  الروابى للمطر فتٌنبت ما تـٌنبت ,,  فقام مروان في  فترة حكمه (10 شهور)بالسيطرة على العراق ومصر ,,ومات.
كان كل شيء جاهز لاستقبال قائد فذ من قادة الأمم عبر التاريخ :عبد الملك بن مروان رحمه الله (646-705 م) الذى قال عنه عبد الله بن عمر: يلد الناس أبناء ,, وولد مروان أبًا.. !! لأنه بالفعل كان بمثابة الأب لأبيه نصحا ومشورة وفهما ,, تربى في المدينة حيث كان أبوه واليًا عليها في عهد معاوية كما ذكرنا فدرس على شيوخها حتى أصبح أحد أكبر فقهاؤها.
قال
 عنه ابن خلدون:عبد الملك أعظم الناس عدالة..وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله فى الموطأ (كتاب المالكية الشهير فى الفقه والعبادات),,ومبايعة ابن عباس وابن عمر له وعدم مبايعتهما لإبن الزبير وهو معهم بالحجاز..
عرب الدواوين,, أنشأ نظام البريد ,, صكّ النقود الإسلامية وجعلها العملة الوحيدة بالعالم الإسلامي لأول مرة ,, في عهده ابتكر(الحجاج !!!!) النقط للكلمات ,, بنى مسجد قبة الصخرة على الصخرة المقدسة التي مستها أقدام النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء واتسع العالم الإسلامي في عهده اتساعا شاسعًا.
ولك أن تتخيل أنه عندما انجب(عمر بن عبد العزيز) ولدا أسماه عبد الملك تيمنا به وعندما مات حزن عليه عمر حزنا شديدا, وكان يرى فيه صوره للحاكم القوى العادل.
***
بعد أن سيطر الأمويون على الشام انحصر الصراع حول وحدة الأمة مع عبد الله ابن الزبير في جبهتين: العراق والحجاز,, قرر عبد الملك السير إلى العراق سنة 71 هـ لقتال مصعب بن الزبير  أخو عبد الله ,, وأرسل إلى زعماء أهل العراق وهو في طريقه يدعوهم إلى بيعته ,, بل ودعا مصعب نفسه لأنهما كانا أصدقاء صداقة قديمة إلا أن مصعب رفض . أنتصر جيش عبد الملك وقٌتل مصعب ويسيطر عبد الملك على العراق وبسقوط الشام ومصر والعراق انحصر ابن الزبير في الحجاز.
كان مروان بن الحكم قبل وفاته قد بعث جيشا إلى المدينة (التى خرج منها منفيا!!) ففر منها حاكم ابن الزبير عليها,, فأرسل عبد الله بن الزبير جيشًا  انتصر على جيش مروان ,, لكن بعد سقوط العراق أعاد عبد الملك المحاولة فأرسل حملة استطاعت السيطرة على المدينة  ,, ثم ما لبث أن أرسل جيشًا ضخما بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي  الذى عسكر بالطائف ,, الذى أرسل يستأذن عبد الملك في دخول مكة لمحاصرة ابن الزبير,,  فنصب المنجنيق  على الجبال حولها وشدد الحصار عليها ,, وكما يحدث دائما وبعد فوات الأوان ,, أصابت الناس مجاعة شديدة فتخاذل عن ابن الزبير معظم أصحابه ,, وسرعان ما أمنهم الحجاج على أنفسهم  واستسلموا ,,ثم هجم الجيش على مكة و قتل بن الزبير بعد حصار لأكثر من ثمانية أشهر ,, وصلبه الحجاج  وبدنه مُنكسًا, ولعله المرة الأولى فى الإسلام, ولم يدفن إلا بعد أن ارسل عبد الله بن عمر إلى الحجاج أن يسمح بدفنه ,, فدفن وصلى عليه أخوه عروة ..لم يصل عليه عبد الله بن عمر ولا عبد الله بن عباس ,,  
ولا تعليق على ذلك ,, لكن طوفان الأسئلة يتدفق ليس عن هذا الموقف فقط ,,ولكن عن أسباب كل ذلك من أساسه لماذا لم ترد على رؤوس الناس وحكماؤهم وقتها فكرة (أمة واحدة /دولة متعددة) و لا كل هذه الدماء التى أهدرت.. وهى الفكرة التى كان قد عرضها معاوية رضى الله عنه على سيدنا على بن ابى طالب( أتركنى فى الشام ولا طاعة لك عندى)ورفضها التحيز دينياً وعاطفياً ,, ونحن مع المسلمين جميعاً في هذا فنحن (نحب آل البيت) أكبر من معاوية والأمويين مئات المرات ,,  لكن هذا الحب الديني والوجداني لا يمنعاننا من أن نذكر الدور الحضارى الكبير للأمويين ودولتهم..الخ.أبو الحسن رحمه الله..وقال(لا يبيتن بها ليلة واحدة) وذلك بعد أن بويع له بالخلافة عام 35هـ.
***
أختم بقول الأستاذ العقاد حول هذه الفترة فيقول : حق الأمانة على المؤرخ في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي(مرحلة الفتنة) أن يراجع بينه وبين ضميره طائفة من الحقائق البديهية قبل أن يستقيم له الميزان الصادق لتقديرالرجال بأقدارهم وتقويم المناقب والمآثم بقيمتها ,, ويضيف : ومن الجدير بالذكر أن(الموازين العاطفية) لا تحكم وقائع التاريخ  ,, وبالتالي فالقول بأن المسلمين جميعاً ـ كما يقول البعض ـ يتحيزون للإمام عليّ وذريته هو قول صحيح إذا كان الميزان ميزان عاطفة ووجدان فنحن نحب على وآل البيت أكثرمن معاوية عشرات المرات ..لكن هذا لا يمنعنا من أن نزن الأمور فى ميزان التقدير والإنصاف حين نتحدث عن الامويين ودولتهم...الخ.