الجمعة 22 نوفمبر 2024
توقيت مصر 00:37 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

المنسوخ واقعا

كانت قضية الناسخ والمنسوخNaskh أوAbrogation في القرآن والسنة من القضايا الشائكة التي أثارت جدلا كبيرا سواء في الداخل الإسلامي أو من خارجه قديما حديثا وخاصة من قبل بعض المستشرقين  الذين ربما كان لديهم بعض العذر في الهجوم على( نظرية) النسخ وفق بناء على طرح القدماء ، وكان أهون نقد استشراقي يوجه ضد فكرة النسخ هو أنه نوع من (التناقض)، أما غلاة المستشرقين فقد ، فقد كان لهم مواقف أكثر عنفا وتهكما مثل ما قاله ريتشارد بيل Richard Bell في كتاب مدخل إلى القرآن Introduction to the Qur’an   . لقد تناولت الكتابات القديمة مسألة النسخ من منظور لغوي ووصفي ، لا تحليلي ، وكان منهجهم في ذلك البدء في تعريف كلمة النسخ والتي كانت تدور حول المحو و النقل والإزالة ، ثم بعد ذلك تقسيم النسخ إلى أنواع منها المنسوخ حكما وتلاوة ، والمنسوخ تلاوة لا حكما ، والمنسوخ حكما لا تلاوة ، وغير ذلك . وقد قدموا أدلتهم على وقوع النسخ  وبيان تلك الأنواع سواء كان ذلك في القرآن أو السنة . وظلت الكتابات تدور في ذلك الإطار مع تغيير يسير في طريقة التناول . لكننا نحاول في هذه الدراسة الموجزة أن نقرأ النسخ بمنهج التحولات المجتمعية وأثرها في تغيير  القانون. فالقوانين والدساتير بشكل عام في لا تظل ثابتة في أي دولة أو مجتمع ، وذلك لتغير الأعراف و التقاليد والحاجات من وقت لآخر ، فالحياة في حركة مستمرة ، وكما تقول الحكمة القديمة : الإنسان لا يستطيع أن ينزل الماء الجاري مرتين"؛ وذلك لأنه في حالة حركة مستمرة  ، يذهب ماء ويحل محله ماء جديد. وإذا اكان هذا الأمر معروفا في القوانين والدساتير قديمها وحديثها، وداخل النسق الثقافي في نفس المجتمع ، فإن التحولات الاجتماعية والثقافية في العهد النبوي كانت أكثر دراماتيكية ودينامية من أي تحولات أخرى عرفتها البشرية. ذلك لان القرآن جاء لهدم كل الأفكار القديمة البالية ، وإحلالها بأفكار أخرى أكثر حداثة وتطورا ، مع الإبقاء على القواسم الإنسانية المشتركة في كل المجتمعات. فالمجتمع الجديد يقوم على عقيدة جديدة هي عقيدة التوحيد، وهي تطلب تشريعا إلهيا جديدا ومغايرا. لكن ما يميز هذا التشريع الإلهي أنه تشريع ينبع من مصالح المجتمعات ذاتها ، وليس مجرد قوانين جامدة تنفذ من منطلق التقديس فقط ، بل هي منهج يقدم (البديل الأفضل) من مجموعة من (البدائل) ، ولذلك فنحن نقول دائما :" إن الشريعة الإسلامية لا تقدم البديل التشريعي الوحيد ، لكنها تقديم البديل التشريعي  الأفضل. فهناك مجتمعات تنطلق من منهج تشريعي وضعي كالمجتمعات الغربية ، وتبدو بشكل حضاري جذاب ومقنع ، لكنها مع مرور الوقت تكتشف قصور بعض تلك التشريعات ، فمثلا حرية العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ، تبدو فكرة  مريحة ، لكنها تتسم بنزعة فردية ، فمع الوقت يقل عدد أبناء المجتمع الذين ينتمون إلى عرق واحد ، و وتزداد الحاجة إلى أعراق و أجناس أخرى ، وتبدأ مشاكل الهوية في الظهور ، وتثار قضايا من قبيل تحفيز عمليات الزواج والإنجاب ، وهكذا . فالتشريع الإلهي من هذا المنظور يقوم بعملية توازن بين حاجة الفرد وحاجة المجتمع. وبالعودة إلى قضية النسخ أو بالتعبير العصري تغيير القوانين، فغن النسخ في الإسلام أمر منطقي بل ضروري ، وذلك لتحول البنية المعرفية القديمة إلى بنية معرفية أخرى ، وهذا يحتاج إلى تعديل وتطوير منظومة القوانين الشرعية وفقا لطبيعة المرحلة. ومن هذا المنظور يفهم مثلا تحليل وتحريم نكاح المتعة عدة مرات ، ويفهم أيضا الحكمة في التحول (التدريجي) في تحريم شرب الخمر ، وغير ذلك من الآيات التشريعية المعروفة . لكن ومع التطور البشري والتقني  أصبحت هناك نصوص تبدو أنها لا يمكن أن تطبق، لان المجتمع الإسلامي أصبح جزءا من منظومة عالمية تضع قيما إنسانية مشتركة ، ولا يمكن تجاهل تلك القيم المشتركة ، فأصبحت فكرة (ملك اليمين) فكرة مستحيلة حاليا ، وكذلك الحال مع فكرة الجزية التي لا يمكن أن تطبق في ظل الدولة الوطنية الحديثة . وهنا يعجز منهج العلماء القديم في تناول قضية النسخ، يعجز عن تقديم مبررات مقنعة عن النصوص التي لم تنسخ لكنها لا تطبق ، وهنا أرى مع بروز تلك المستجدات أن نعيد النظر في الطرح القديم ، وأن نضيف نوعا جديدا من النسخ إلى التصنيف القديم ، بحيث يصبح لدينا نوع جديد يسمى المنسوخ واقعا ، وهو الذي يمكن أن نعرفه بأنه ما ثبت حكمه وتلاوته ، لكن يستحيل تطبيقه في الظرف الراهن.  وفي النهاية فإنني أزعم أن تناول قضية النسخ من  خلال التحولات الاجتماعية ، وتعديل القوانين تبعا لتغير المفاهيم والحاجات يمكن أن تقدم تفسيرا مقبولا للعقل الحديث. أما الجمود أمام القواعد الأصولية القديمة دون تطوير وتجديد وفقا للسياق التاريخي ، فلم يكن مجرد نوع من الاستسهال المعرفي والتقليد العلمي ، بل كان كارثة فكرية شوهت بنية العقل العربي حتى أصبح يعيش خارج الزمن .