الثلاثاء، 03-03-2020
03:38 م
د.يحيى العباسي
لم يصف القرآن الكريم فردا بأنه أمة إلا إبراهيم عليه السلام. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل : آية 120]. و مفهوم الأمة هو الجماعة من الناس تجمعهم رابطة: مكانية أو لغوية أو فكرية ....ألخ.
و عندما يوصف فرد بأنه أمة أي أنه يقوم بمفرده بما تقوم به الجماعة ، و هكذا كان الدكتور عمارة( 1931- 28 فبراير 2020م) ، قام بما يقوم به مركز فكري بحثي، أو قسم من أقسام الفكر الإسلامي .
و اجتمعت عوامل كثيرة ساعدت د. عمارة على القيام بما قام به. أولها نذر والده له ليكون عالما، يخدم أمته و دينه. و كان والده ريفيا بسيطا، لكنه أخلص في نذره، و لعل الله قد تقبله منه بقبول حسن.
و منها أنه تعلم في الأزهر ، و هو أزهر غير أزهر اليوم، فحفظ القرآن ، و المتون العلمية. ثم التحق بكلية دار العلوم - و هي كذلك غير دار العلوم الآن -. فقد كان للالتحاق بها امتحان تحريري و شفوي في القرآن و متون العلم كألفية ابن مالك مثلا. و كلية دار العلوم مدرسة فكرية متميزة و متمايزة عن غيرها مثل الأزهر و كلية الآداب. و لا تقبل إلا متفوقي الأزهر الشريف. فالدكتور عمارة كان متميزا متفوقا.
و عايش الدكتور عمارة الفترة التي عاشها مشاركا لا متفرجا، فانتمى في سنواته الأولى للتيار الماركسي، ثم تحول إلى الفكر الإسلامي، و عرف التيارات الفكرية و السياسية عن قرب. و هذا سيفيده كثيرا عندما ينقد بعض هذه التيارات الفكرية المعاصرة.
و بعد تخرجه من دار العلوم ، أراد الالتحاق بالدراسات العليا قسم التاريخ الإسلامي و الحضارة الإسلامية، إلا أن الله اختار له قسم الفلسفة الإسلامية، و هو قسم كأنه كلية كاملة للفكر الإسلامي، فيدرس فيه كل اتجاهات و تيارات الفكر الإسلامي القديم و الحديث من: منطق و تصوف و علم كلام، و أخلاق، و فلسفة إسلامية قديمة و حديثة، و فرق و مذاهب، و الفكر الإسلامي الحديث و المعاصر......ألخ.
و حصل على الماجستير ( 1970م) في موضوع (عن مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة)، ثم حصل على الدكتوراه(1975م) في موضوع ( نظرية الإمامة و فلسفة الحكم عند المعتزلة). و موضوعا الماجستير و الدكتوراه جمعا بين أهم موضوعين في تاريخنا القديم و الحديث: الحرية و مشكلة الحكم.
و كأن الأقدار كانت تعد الدكتور عمارة إلى مهمته التي نذر لها. و عاش لها و بها و فيها. عاكفا محتسبا شجاعا لا يخاف في الله لومة لائم. و هو و غيره بقية من علمائنا يصمدون في وجه البغي و الظلم. فيميز الناس بهم بين الحق و الباطل. و يدركون أنهم لسان الأمة و ضميرها، فيركنون إلى جانبهم مطمئنين.
و كان القرار الأصعب و الأصوب و هو التفرغ للبحث و التأليف، يقول:" آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حراً مشتغلاً بالعلم، وأن أكون كالجالس على الحصيرة؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها" . لأن جامعاتنا لا تطيق الحرية العلمية الكاملة، و الوظيفة عقد عبودية للعالم، فبه يضيق عليه حينا، و يجبر على مواقف لا يرضاها كثيرا، و غير ذلك مما هو معاش.
هذا التفرغ العلمي أتاح للدكتور عمارة أن يعكف على مشاريع علمية كبيرة، و هي الأعمال الكاملة لكبار مفكري الإصلاح والتجديد الإسلامي الحديث مثل: الطهطاوي، محمد عبده، الأفغاني، لقاسم أمين، و السنهوري. و هو مجهود فكري كبير، بلغ آلاف الصفحات.
و هو عمل مطلوب للتأريخ للفكر الإسلامي المعاصر، فقد نسب لهؤلاء المفكرين أقوال و آراء لم يقولوا بها. و هو نموذج لابد من السير عليه لكل مفكرينا قديما و حديثا إن أردنا التأريخ الفكري لفكرنا الإسلامي.
عاش الدكتور عمارة عصر محاولة اقتلاع الأمة و تشتيتها: فكرا و تاريخا ووجودا، و هو كمفكر يمتلك رؤية واضحة ، جند نفسه لحماية أمته و دينه، فخاض كل المعارك الفكرية مع كل التيارات و الشخصيات: المستشرقين والحداثيين والعلمانيين. و المتغربين من أشباه الباحثين من أبنائنا.
فكتب و مقالات الدكتور عمارة وحدها تؤرخ للفكر الإسلامي المعاصر، و قد بلغت مؤلفاته حوالي مائتي مؤلف . و الرجل مخلص في مواقفه، عف اللسان، واضح الحجة، حاضر الدليل، و أسلوبه سهل ميسور، لا عنت و لا عضل في فهمه.
رحم الله الدكتور عمارة، و جعل مداد كتبه كدماء الشهداء.