السبت 27 أبريل 2024
توقيت مصر 17:01 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

إبن تيمية وأسامة الباز..حين يتحدث الكبار

كان من العادات الجميلة لهيئة الكتاب وقت رئاسة د/سمير سرحان رحمه الله  إقامة أمسيات فكرية فى ليالي رمضان ..و كانت موضوعاتها بطبعة الحال فى الأغلب دينية ..لكن أغلب المتحدثين فيها  كانوا من المفكرين والسياسيين (المثقفين) ولم يكونوا علماء دين ولا دعاة.. وكان هذا من ذكاء د/سرحان وألمعيتة السياسية والفكرية ..السياسي المثقف فى حقيقة الأمر قيمة مهمة وضرورية للمجتمع والدولة.. وهى صفة تكاد تكون أصيلة عند أصدقائنا اليساريين وهو ما سهل عليهم السيطرة على كل المؤسسات الثقافية والإعلامية  من منتصف الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات .. وكانت هذه السيطرة(الفعل) الذى أحدث أهم(رد فعل) له.. وهى ظهور التيار السياسي(الإسلامي)..لم تكن السبب الوحيد بالطبع ..لأن هذا التيار الاجتماعي الكبير كانت له جذوره أولا.. وثانيا كان وليد صدمة  انهيار مشروع الاستقلال الوطني وانكشافه التام و التى كانت ذروته وأخطر نتائجه هزيمة 1967م ..وباقيسلسلة الانهيار كانت مجرد تفاصيل.
الحاصل أنه فى رمضان 1993م استضاف د/سيمر سرحان..أحد أهم السياسيين المثقفين فى هذا الوقت بل وأبرزهم وأكثرهم نفوذا وتأثيرا.. د/أسامه الباز رحمه الله .. كانت مصر فى هذه الفترة تشهد عنفا متطرفا بالغ الشراسة ولم يكن فى سيناء كما نعيش هذه الأيام بل كان فى قلب القاهرة.. وكان شبه يومى تقريبا.
كانت فترة عصيبة على الدولة والمجتمع بأكمله.. وكان المشهد كله غامضا ولم يكن هناك تفسير _إن جاز أن يكون للقتل واستباحة الدم تفسير_  وكان الشارع ملىء بالكثيرمن الأسئلة و القليل جدا من الإجابات ..وتجاوزت مصر وشعبها برحمة من الله وفضل  تلك الفترة الكالحة ..كما ستتجاوز إن شاء الله ما تتقطع له قلوبنا الأن فى سيناء وأيضا برحمة من الله وفضل .. وتقبل الله شهدائنا.. حبة عيوننا وفلذات أكبادنا فى رضوانه فرحين بما أتاهم الله من فضله.

****
دخلت القاعة  وكان سيل الكلمات والأفكار قد بدأ تدفقه من هذا الرجل الكبير رحمه الله .. وكان يتحدث بطبيعة الحال عن التطرف فى معرفة الدين وبالتالي التطرف فى الحركة به بين الناس..  وما يترتب على ذلك من أثار مدمرة تدفعها المجتمعات والأوطان ثمنا غاليا من أمنها و استقرارها ونمائها ..تحدث عن تيارات الإصلاح والتجديد من منتصف القرن التاسع عشر.. ومر عليها كلها تقريبا بوعى وفهم عميقين رغم علمانيته الشهيرة رحمه الله( سيحدثنا د/عبد الوهاب المسيرى لاحقا عن الصداقة الحميمة التى كانت بينه وبين  د/أسامة).
ثم تحدث عن(بن تيميه) وأثنى عليه ثناء ديبلوماسيا أنيقا يليق به وبنفسه وبالجمهور وبالوطن الذى يخدمه وبالدولة التى يمثلها ..وبين أنه مثل كل الشخصيات التاريخية لا يكون الحكم عليها إلا من خلال الزمن الذى عاشت فيه وأن الرابط المشترك والجامع لكل هذه الشخصيات أنها تركت وراءها تجربه وتراثا .. منه ما كان يتصل مباشرة بأحداث زمنها وزمنها فقط.. ومنه ما هو ممتد وعابر للزمن والبشر.. وأضاف أن الزمن والعصر الذى عاش فيه بن تيميه كان مليئا بالتوتر والاضطراب دينيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا..وعلينا أن نضع تراثه فى إطار هذا الزمن الذى كٌتب فيه لندرك محموله جيدا.
بعدها قابلت د/أسامه قدرا فى القطار المتجه إلى الإسكندرية وكانت مقاعدنا متجاورة  و دار بيننا حديث ممتع  كان من أطرف ثمراته أننى اخترت لإبني اسمه على اسم ابنه (باسل) .. رحم الله د/أسامه..فقد بحق واحد ممن يملؤون الأماكن التى يدخلونها.. كان صاحب تاريخ سياسى ثرى وخصب وملىء بالأحداث الكبيرة .. وطويل بطول الجمهوريات الثلاث  التى عمل معها (ناصر والسادات ومبارك) وكانت له أدوار فاعلة وصوت مسموع ومعتبر .. خاصة السادات ومبارك ..سنترك للتاريخ وحده الحكم علي تلك الأدوار فإسم الرجل سيظل يكتب  بعلامات بارزة عند الحديث عن أزمان وأحداث هامة فى تاريخ مصر والوطن العربى فى النصف الثانى من القرن العشرين ( التنظيم الطليعى/ هزيمة 1967/نصر أكتوبر/كامب ديفيد/ احتلال وتحرير الكويت/ احتلال العراق).. وتمنينا لو كان قد ترك لنا سيرة ذاتية بقلمه .. إلا أن زوج شقيقته السفير/هانى خلاف كتب عنه كتابا مهما (أسامة الباز – سيرة حياة) دار نشر نهضة مصر.   
****
بن تيمية (1263- 1328 م) وكما ذكر د/أسامة الباز عاش و وٌلد بالفعل في وقت من أشد أوقات التدهور والانحدار الفكرى والفقهى والسياسى والاجتماعى للأمة.. فلم يكن قد مر على سقوط بغداد على  يد المغول  سوى خمس سنوات (1258م) .. وسنقف كثيرا عند  مقولة أبي الحسن الندوي عن بن تيمية  أنه كان أعلى من المستوى العلمي والفكري للجيل الذي نشأ فيه .
ومن ناحيتى لا أجد حرجا فى القول ,, بل وأعلى من المستوى العلمي والفكري للأجيال الحالية التى  ألزمت نفسها من أراء زمنه وعصره بما لا يلزمها في زمانها وعصرها كما كان وقد ألمح  د/أسامة .. وتركوا للأسف أشد وأكثر ما يحتاجه عصرنا وزماننا من أفكار هذا الرجل الكبير الفريد.. الذى لم يٌرى مثله ولا رأى هو مثل نفسه كما قال أحد تلاميذه.
خذ مثلا تأصيل ابن تيمية لمركزية( العدل) في الإسلام كأحد أكبر قيمه ومثله العليا  وحقيقته الأكمل فى شريعته ومنهاجه .. وجملته الشهيرة( ينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة) حاضرة على لسان المؤمنين وغير المؤمنين .. بعدها بستة قرون سيأتي أستاذ أساتذة العلوم السياسية المفكر الكبير/ حامد ربيع ليقول بذلك وهو بالمناسبة كان يعتبر بن تيمية  أحد أبرز أعمدة الفكر السياسي الإسلامي كما قال في كتابه الشهير(مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي).
خذ مثلا تأكيده على معادلة التوازن بين المصالح والمفاسد فى أي عمل فقد كان يرى أن الخير والصلاح هو الباب الكلى للحياة فى ظل الإسلام ..وهو ما عرف لاحقا بعد 500 سنة بـ(نظرية المنفعة) أو المصلحة على يدي المفكرين الإنجليز الكبار جيرمي بنثام  وجون ستيورات ميل.
****
كان الرجل دائم التفاعل والاشتباك مع إشكاليات الحياة اليومية لصالح الناس والمجتمع حماية له ..  وله فى مجموعة الفتاوى أراء قويه فى ذلك .. سنقف كثيرا عند ما قدمه ابن تيمية في (فقه التيسير) في مجال العبادات وهو أكثر من أن يحصى وستلمس فيه نبض الحياة وقوة الصدق وعمق الفهم والفقه.. يكفي أن نعلم أنه أجاز الجمع بين الظهر والعصر(عمل النهار)مثلا لضرورات العمل (الشيخ الإمام محمد عبده كان يفعل ذلك ويحض عليه) وكان يرى أهميه أن تعمل المرأة وتستقل ماليا .. وله في فقه الطلاق تبصر ورؤى تجاوز بها المذاهب الأربعة (طلاق الثلاث) وتأخذ بها كل الدول الإسلامية الأن تقريبا.. وكان يقول دائما لتلاميذه  بعدم الحاجة فى المعاملات إلى نص.. إذ يكفى فقط عدم المخالفة لأن الأصل فى كل شيء أنه مباح وحلال..إلا ما حرمه الله وهى أشياء تعد على أصابع اليد .. ويزيد فى الشرح قائلا: كل ما يؤدي إلى صلاح الناس وسعادتهم  ويحقق لهم العدل فهو شرع..وإن لم ينص عليه كتاب أو سنة.
حين أحتل التتار الشام سنة 1300م.. كان لديهم أسرى من أهلها وذهب إليهم  بن تيمية  للتحدث بشأن هؤلاء  الأسرى فسمح له القائد التترى (محمود غازان) بفك أسر المسلمين فقط .. فرفض بن تيمية.. وقال له( لا نرضى إلا بافتكاك الجميع.. لن ندع أسيرا ..لا من أهل  الذمة ولا من أهل المله..فلما رأى تشدده وإصراره سمح لهم جميعا ).              و الموقف على حجيته وعظمته  من المواقف التى لا تًنسى .. إلا أن الرجل للأسف فى هذا الجانب يٌتهم بغير ما هو عليه.. وعلى فكره جملة (أهل الذمة) بالغة المعنى فى صون وكرامة إخوتنا المسيحيين .. ففى التقاليد الاجتماعية  حين تستحلف أحد أو تستأمن أحد تقول له : بذمتك ؟ أو أن هذه الموضوع فى ذمتى .. يعنى فى الحفظ والصون.. لكنها الأن للأسف أصبحت ذات حمولة اجتماعية مزعجة .. وعموما فقد أصبح الوطن هو الحضن الكبير لأهل الذمة وأهل الملة جميعا ..الكل مواطنون كما يقول الأستاذ الكبير فهمى هويدي فى كتابه الشهير (مواطنون لا ذميون) :انطلاقا نحو مستقبل يسع الجميع  ويسعد فيه الجميع.
****
المشكلة أبدا لم تكن فى(بن تيمية) الذى عاش 67 عاما ومات وهو فى السجن بدمشق لمواقفه الفكرية والفقهية المتقدمة عن عصره وزمانه ..مثل أغلب المفكرين والمبدعين والفلاسفة الذين قطعوا خط السياق الطبيعي والرتابة  والبلادة بأفكارهم التى زلزلت الركود والجمود وكل ما يعكر مزاج  كل تنبال مكسال ..وكل من أعتاد الارتخاء وإعادة إنتاج الحياة المكرورة. 
عاش الرجل عمره وزمنه.. وأى زمن كان ؟ لقد كان فعليا زمن لا يمكن الانتصار عليه إلا بالموت..وقد كان.
قد تكون هناك بالفعل إشكالية فيمن قرأ الرجل وحمًل هذه القراءة على الاسم التاريخي والعلمي الكبير له ولزمانه ولدينا نماذج مختلفة.. فمالك بن نبى مثلا  قرأ بن تيمية وأنتج لنا كتب مثل : شروط النهضة /ومشكلة الثقافة /وميلاد مجتمع .. بل ووصف بن تيميه بالترسانة الفكرية التي لا تزال تمد كل الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية حتى اليوم.. المودودي وسيد قطب مثلا  قرأه وأنتجا (المصطلحات الأربعة في القرآن) للمودودى و(معالم فى الطريق) لقطب..كما قال العالم الكبير أبو الحسن الندوى فى كتابه الهام(رجال الفكر والدعوة في الإسلام) وكتب فيه فصلا كاملا عن بن تيمية ..بل ونقد ما توصل إليه المودودي وقطب.. د/أسامة الباز مثلا قرأه وكون رأيه السالف كما ذكرنا
رحم الله الجميع رحمة واسعة وجزاهم الخير كله عما قدموه وبذلوه..وفى النهاية أنت تتحدث عن علية القوم و كبار القوم  وعقلاء القوم.
لكن ماذا نقول في سفهاء القوم وصغار القوم وحثالة القوم من شلل(أهل التفاهة يا ليل) .. الذين يتحدثون عن( الرجل) فيذكرًونا بالراحل (شكوكو) حين تحدث عن العملاق الكبير (عباس العقاد).