حكى لى أحد الأصدقاء أن ذاكرته عن
حرب أكتوبر العظيمة تكاد تكون (مشهد بين مشهدين وزمن بين زمنين) والغريب ارتباط المشهدين بجدته أم أبيه رحمها الله.. المشهد الأول كان اجتماع العائلة سنة 1968م فيما يشبه العزاء لأن أحد أبناء العمومة كان مطلوبا للتجنيد..كانت حالة بكاء حقيقية عن مفقود لن يعود.. أما المشهد الثانى فكان في عام 1973 وكانت بطلته أيضا جدته والتى أيقظته من نومه وهى تبكى _ كان يعيش معها_ ليصحبها في الذهاب إلى البوسطة لتشترى (سندات جهاد).. وسندات
الجهاد هذه لم تعد تذكر كثيرا ضمن ذكريات
حرب أكتوبر رغم أنها تعتبر شاهد ملك على ما كان في نفوس
المصريين وقتها من ثقتهم الهائلة في
الجيش والقائد وعزمهم الصلب على محو هذا العار الطارئ فى الوقت الذى كادت تخبو فيها كل الآمال.
تم طرح
السندات فى البنك المركزى و
البنوك المصرية على فئات مالية من 50 قرشا وحتى 100 جنيه وبلغت حصيلة
السندات بعد شهر واحد من بدء ال
حرب 7 مليون جنيه ! وبأسعار الذهب والقيمة وقتها ممكن تتوقع قيمة هذا المبلغ الأن! (الدولار كان سعره 30 قرش والذهب عيار 21 كان سعره 183 قرش وك اللحمة كان بـ 60 قرش)..المدهش أيضا أن إقبال الناس على دفع
الضرائب في هذا العام زاد بأضعاف حصيلة 1972 م ..الأكثر إدهاشا تقارير وزارة
الداخلية التى لم تسجل بلاغات أو محاضر لمدة 3 شهور قبل ال
حرب وبعدها و حتى نصف نوفمبر وكانت خلافات الناس يتم حلها بالجلسات العرفية والأهلية ..كان الوقت له معنى أخر والوعى الوطنى له مستوى أبعد كثيرا.
****
المشهد الأول الذى جلست فيه نساء العائلة يبكين لتجنيد أحد أبنائها كان موقفا فطريا بامتياز يعبر عن الغياب التام للثقة في قصة ال
حرب والاستعداد والقدرة والإحساس العارم بالقلق العارم.. فالجنود العائدون حكوا للأهالي كل شىء وما أدراك ما كان كل شىء ..من ساعة ما ذهبوا للقتال صبيحة 5 يونيو بملابسهم المدنية _في كثير من الحالات_ إلى أن عاد من عاد منهم منسحبا استجابة لأوامر للقائد العام (انسحابا كيفيا) والانسحاب الكيفى في سيرة الجيوش ليست فقط كارثة ولكنه عار وهو يعنى ان كل واحد ينسحب كيفما يترائى له , لا وفق قواعد الانسحاب العسكري المنظم الذى تتعلمه الجيوش كما تتعلم التقدم والهجوم ..الحاصل أن الجميع تقريبا فعل ذلك باستثناء اللواء سعد حسينى الشاذلى الذى كان يقود لواء مدرع و كتيبة مشاة وكتيبه صاعقة حوالي1500 ضابط وجندى (مجمـوعة الشاذلي) و الفريق الشاذلى طبعا أشهر من أن يٌعرف..الرجل صاحب التداخلات الرائعة بين الحلم والواقع.
الحاصل أيضا أن
الجيش وجنوده في كل وقت وعصر يمثلون قطاعا عرضيا من عموم الشعب ضباطا وجنودا والحكايات كانت تروح مع الرايحين وتيجى مع الجايين ..خاصة بعد
حرب 1956م ثم
حرب اليمن 1962م فالناس كانت تعلم كل شيء وكانوا لا يملكون إلا البكاء كما حكى لى صاحبى..والحقيقة أن معرفة الناس بما كان يحدث داخل المؤسسة الأهم لن يكون ذو قيمة إذا قارناه بما كان يعرفه القائد الأعلى وهو الرجل الذى كان يملك عيونا في كل بيت من بيوت
المصريين وليس
الجيش فقط ومع ذلك فقد أثر الصمت.. كما قرأنا في كتاب الأستاذ مصطفى بكرى بالغ الأهمية(هزيمة الهزيمة) والذى يتضمن محاضر اجتماعات الرئيس مع مجلس الوزراء واللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي والقادة السوفييت وبعض القادة العرب فيحكى عن حوار في 8/1967م : (في سنة ٦٢ قبلت استقالة عبد الحكيم عامر وانتم عندي في البيت وفي الآخر قلت لكم سيبوني أفكر ما كنتش عارف الموضوع كان فيه ناس عايزة تعمل حاجات (انقلاب؟)وقعدت لميت عبد الحكيم عامر وبعدت نفسي عن
الجيش.. وقبلت بأوضاع لأسباب تعرفوها ويعلمها الله…وقلت لنفسي نلم نفسنا ..وكان هدفي أطمئن عبد الحكيم من الناس اللي كانوا بيخوفوه مني ..وهو بيخاف مني وكنت باريحه ..لكن كنت برضه أقدر أقول له.. ويقول لي حاضر ما عدا حاجة واحدة: موضوع
الجيش.. كان مصمم على رأيه، وأنا سلمت بهذا ) إنها لحظات الاكتشاف والانكشاف لنظام منهار قال كل ما لديه ليقوله وانتهى أمره.
الرئيس الذى سلم بهذا أتخذ قرارات إعلان
حرب كان يعلم أنه سيٌهزم فيها هزيمة لم تحدث في التاريخ الحديث (إغلاق خليج العقبة وإزالة بعثة الأمم المتحدة) نقلا عن الفريق محمد فوزى(1915-2000م) وزير ال
حربية في مذكراته (
حرب الثلاث سنوات) :أنا أعتبر أن قرارغلق الخليج فى 18 /5/67 و الذى نفذ فى الساعة الثانية عشر صباحا من يوم23/5هو الذى قلب الحسابات رأسا على عقب إذ إن هذا القرار حتم بالضرورة تحول المواجهة إلى صراع مسلح )لكن الفريق فوزى يؤكد على براءة الرئيس من المسئولية رغم تأكيده على أن الرئيس كان يعلم باستحواذ عامر على
الجيش..وأنه أكد أن إسرائيل ستحارب في 5 يونيو وهو ما تجاهله عامر.
ناصر - كما يقول الفريق فوزي - ظل على حبه لعامر وخوفه على مشاعره فلم يحاول أن يحمله أي مسئولية ولم يحاول إلقاء اللوم عليه وحتى حينما قررإبعاده عن الحياة العسكرية لم يفكر في محاكمته ولكنه فقط آثر تحديد إقامته رحمهم الله جميعا فكما يسدد كثير من الأبناء ثمن أخطاء الأباء كذلك الشعوب أيضا.. وأصبحت هزيمة 5 يونيو الشوكة التى تسكن جنبنا.. وتركت وراءها ألف حزن وحزن.
لكنى لم أملك إلا رصد اللحظة التى حكاها لى هذا الصديق ..لحظة بكاء العائلة على ذهاب ابنهم إلى المجهول خلف من لا يعلمون.. وإن علموا فليس خيرا ما علموا ..وهو الموقف الذى تغير 180 درجة بعد غياب القائدين(ناصر وعامر).
****
المشهد الثانى كان موحيا بكل جلال المشهد وصدقه وصفاؤه وأيضا جدواه.. فالحقيقة كانت قد أطلت برأسها عاليا طوال السنوات الست الماضية(1967 -1973م) وعزم الجنود كانت تبرق به العيون وتهمس به الأصوات ضد القوى الخائرة والذكريات المؤلمة..الأهم من كل أهم هو الحضورالواسع للدين والذى كان كافيا بما يكفى ويزيد .. ليس فقط في الرسائل المتتالية للقائد الجديد بل كانت وراؤه أسماء بقيمة الشيخ الجليل عبد الحليم محمود والشيخ الجليل متولى الشعراوى والشيخ الغزالى والشيخ الدفتار ..سنعرف أيضا أن شعار(الله أكبر)الذى انتشر و صاحب المعركة والعلامة الأكثر ارتباطا بها كان اقتراح مباشر من عالم ازهري اسمه د/محمد نايل أثناء
حرب الاستنزاف .. والحقيقة أنه منذ تولى الفريق عبد المنعم رياض رئاسة الأركان في 11/6/1967م وبدأت زيارات العلماء والشيوخ .. بدءً من الشيخ حسن مأمون والشيخ الفحام ود/ عبد العزيز كامل المفكر والعالم الكبير والذى كان وزيرا للأوقاف أثناء
حرب أكتوبر.
الحضور الدينى إذن كان يملأ الوعى كله وهو ما جعل صورة الحفل الساهر في قاعدة انشاص الجوية تتلاشى من خيال
المصريين الذى أرهقته كثيرا حكايات مثل زواج القائد العام من إحدى الفنانات.. وكذلك زواج مدير مكتبه العقيد على شفيق من أحدى المطربات ..هذا فى الوقت الذى كان يفاخر فيه السيد /سامى شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات بأنه يعرف كان دبيب النمل في مصر كما قال في كتاب(سنوات وأيام مع عبد الناصر..و كيف حكم مصر) الذى أصدره المكتب المصرى الحديث ..الكتاب مهم وبه معلومات مثيرة ثريرا ثرورا ..فقط لمن أراد أن يعتبر عن خيبة الأمل العامة التى استشرت بشكل مدهش وقتها بشأنه وشأن تصرفاته بعد ما كان.
لكن جيش مصر العظيم تغلب فورا على هذه الفقاقيع المؤقتة التى سرعان ما تطايرت في العدم وأصبحنا نرى ونسمع أسماء عبد المنعم رياض وإبراهيم الرفاعى ومدكور أبو العز وأحمد إسماعيل والشاذلي والجمسي وأحمد بدوى وعبد المنعم واصل وأمين هويدى وعشرات غيرهم..ممن وضعواعلى صفحات حياتهم وحياتنا ألاف العلامات المضيئة وأتمنى من إعلامنا وشركات إنتاجنا أن تتكرم علي وعينا وذاكرتنا وإحساسنا القومى والوطنى بأن تنتج عن كل اسم من هذه الأسماء فيلما أومسلسلا مثل ما حدث مع المسلسل الممتاز عن الشهيد المنسى لنوصل الحاضر بهذا الماضى الشاهق الضخم ..صحيح أن مثل هذا الإنتاج قد يفتح (نافذه مغلقة في الذاكرة)على العدو المقيم على حدودنا الشرقية والذى تربطنا به معاهدة سلام..لكن التاريخ هو التاريخ والأبطال هم الأبطال والنصر هو النصر ومن حقنا أن نفخر وندون ونوثق هذا الفخر مكتوبا ومرئيا ..الحلفاء لازالوا ينتجون حتى الأن دراما عن انتصاراتهم على العدو الأزلي لهم(أمس واليوم وغدا) ألمانيا(فيلم دونكيريك مثلا 2017م) رغم أنهم الأن سمن على عسل على ماستريخت ( المعاهدة الأوروبية التى عقدت في مدينة ماستريخت الهولندية سنة 1992م وتقبع بها الحكومة العالمية!! ).. الدولة الأن كانت سابقة حين أطلقت أسماء هؤلاء الأبطال العظام_ حتى من كانوا مختلفين معها_ شواهد في القاهرة والمدن الكبرى .
سأقول دائما أن أيام أكتوبر كانت اللحظة التى استعاد فيها المصرى مكانته فى الحياة والعالم ..أكثر أيامنا عزة وإدراكا وكرامة وقوة وشرف وقيمة ومعنى ..بكل ما تحمله هذه الكلمات من صدق اللفظ وجلال المعنى.. وكأننا ما كنا وكأن أيامنا لم تمرعلي أعمارنا..لم نفرح مثلما فرحنا أيامها ..لم نغن مثلما غنينا أيامها ..تخيلوا الأغنية الرسمية لأيام أكتوبر كانت تبدأ بـ (بسم الله الله أكبر) أى صفاء وقرب واقتراب كان عليه الناس وقتها..الجملة في الأصل كانت هتاف مظاهرة سمعها بليغ حمدى من نافذة بيته فقالها لعبد الرحيم منصور الذى أكملها ..رحمهم الله جميعا ..
ورحم الله كل من صدق مع ربه وصدق مع نفسه وصدق مع الناس وإن أخطأ في قول أو فعل أو قرار أو رأى .
وأختم بجملة لهذا الحبيب الذى يجعل (سيروتنين ) دماغنا يزيد كلما سمعنا اسمه أو قرأنا سيرته (عبد المنعم رياض) والذى قال(لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد وضميره الأخلاقى بغيرمعركة).
وسيظل شرف هذا البلد..وأخلاق هذا البلد..وضمير هذا البلد..محفوظا بحفظ الله لها ولأهلها الطيبين وبحفظهم هم وصونهم لأنفسهم وترابهم ونيلهم وكرامتهم .. فهوسبحانه خير حافظا وهو أرحم الراحمين .