الجمعة 22 نوفمبر 2024
توقيت مصر 00:05 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

مراتب الكمال الإنساني

أسامة شحادة
اختلاف وتنوع وتباين الناس حقيقة مسلّمة لا جدال فيها، لكن يقع الخصام في تحديد معايير الأفضلية والتمايز، فالبعض ينحو لاعتماد معايير مادية بحتة كالقوة والعظمة والجاه والمُلك والثراء، وكان هذا مبرر رفض كفار قريش قبول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم "وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" (الزخرف: 31) والمقصود بالقريتين مكة والطائف، ومن قبل اعترض اليهود على اختيار الله عز وجل لطالوت ملكا عليهم فقالوا: "أنّى يكون له المُلك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤتَ سعة من المال" (البقرة: 247).
ويرى آخرون أن التمايز يكون بالجنس والعِرق أو اللون والبشرة، كما زعمت النازية من تفوق العرق الآري، أو النظرة المستعلية لأصحاب البشرة البيضاء على من سواهم ممن يؤمنون بنظرية دارون للتطور، والتي تجعل من سواهم في مرتبة حيوانية أقل تطورا منهم، وبسبب هذه النظرة العنصرية لا تزال تتكرر الجرائم العنصرية بحق السود في الغرب -وآخرها مقتل جورج فلويد بأمريكا- برغم كل صيحات حقوق الإنسان وتضمينها في المناهج التعليمية، إذ أن تدريس نظرية التطور في المناهج يولّد لدى الطلبة مفاهيم منحرفة خطيرة منها عدم المبالاة بالأخلاق والقيم فنحن في النهاية حيوانات! ومنها أن الآخرين بعضهم حيوانات أقل منا نحن البيض كالسود والهنود من سكان أمريكا الأصليين! وقد كانت هناك لعقود قريبة في الغرب حدائق للبشر (human zoo) على غرار حدائق الحيوانات!
بينما الإسلام حدد معياره للتفاضل والتمايز بين الناس بمعيار معنوي وهو التقوى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، والتقوى هي معرفة أوامر الله عز وجل وأدائها ومعرفة نواهيه  واجتنابها، وهذا هو لب الحياة الإنسانية.
انطلاقا من هذه الحقيقة ومن هذا المعيار لضبط الأفضلية والتمايز بين البشر يقدم لنا العلامة ابن قيم الجوزية مراتب الكمال الإنساني الأربع، فيقول في كتابه القيّم (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي):
"كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين".
فالكمال الإنساني يقوم على العلم بالحق (القوة العلمية) وعلى العمل بالحق (القوة العملية)، ومن خلال تباين ارتباط هاتين القوتين في الناس لأربع حالات تتباين مراتبهم في سلم الكمال، وهذا ينطبق على كل أحوال الناس الدينية والدنيوية. 
فالحالة الأولى -وهي أعلى المراتب- يبين ابن القيم المقصود بها فيقول: "أثنى الله سبحانه على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- في قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصَفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه".
فالدرجة الأولى والأكمل هي اجتماع القوة العلمية وهي معرفة الحق مع القوة العملية وهي تطبيق مقتضى الحق، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أكمل البشر في ذلك ثم الصديقون. واجتماع العلم والعمل بمقتضاه هو كمال في كل الأحوال الدينية والدنيوية، فهل التقوى إلا ذلك، وهل الصلاح إلا ذلك؟
أما الدرجة الثانية في الكمال الإنساني فهي لـ: "مَن له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمنِ الضعيف، والمؤمنُ القوي خير وأحبّ إلى الله منه".
وهذا حال غالب الناس في الدين أو الدنيا، هم يعرفون أن مصلحتهم الدينية والدنيوية والأخروية في التزام التقوى، لكنهم يضعفون في التطبيق والعمل والتنفيذ! وبسبب هذا تظهر فجوة التفاوت بين عظمة الإسلام وضعف واقع المسلمين أفرادا ومجتمعات ودول.
وفي أمور الدنيا مثلاً يعرف الناس مضار التدخين بأنواعه والإسراف في الطعام وخاصة الوجبات السريعة والمشروبات الغازية ولكنهم مع ذلك لا يتحكمون بسلوكهم، وأيضا يدركون مخاطر الاستغراق في وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية وقنوات الأفلام ومع ذلك يستسلمون لها.
وهذا نقص ظاهر في القوة العملية وهو سبب فشل وفساد كثير من الدول والمجتمعات برغم توفر الإمكانات لها.
والدرجة الثالثة في سلم الكمال الإنساني: "مَن له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمُّا".
وهؤلاء عندهم قوة عملية ولكن تضعف أو تنعدم عندهم القوة العلمية، وهم على درجات، فبعضهم لا يميز الدين الحق من الباطل، وبعضهم لا يميز السنة من البدعة، والشرك من التوحيد.
وهؤلاء الجهلة هم رواد الأضرحة والقبور الذين يقدمون لها القرابين والنذور بدلا من تقديمها للفقراء والمساكين، ويطلبون من الأموات الشفاء والصحة بدلا من العلاج عند الأطباء، ومِن هؤلاء من يريد الاسترسال مع شهواته كلها ويظن أنه بحضور مولد مبتدع لا شرعية له قد تجاوز القنطرة، ويقابل هؤلاء من يظن التطرف والغلو والإرهاب جهادا في سبيل الله! 
وقسم ثالث له جَلَد عجيب في مطالعة شبكة الإنترنت ومتابعة كل شاردة وواردة، لكنه في أمر الدين يعجز عن البحث عن فتوى معتمدة أو سماع محاضرة قيمة أو مطالعة كتاب مفيد، ويكتفي بمتابعة شخصيات غير مؤهلة ولا متخصصة في الدين أو هي أصلا تحمل أجندة هدم الدين بالدين وما أكثرهم اليوم.
والدرجة الرابعة والأخيرة وصف ابن القيم أصحابها بقوله: "مَن لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يُضيقون الديار ويغلون الأسعار، ولا يُستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار".
ويلخص ابن القيم ما سبق فيقول: "ومَن كانت له هاتان القوتان (العلمية والعملية)؛ استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، "والوقت -كما قيل- سيف فإن قطعته، وإلا قطعك"، فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة؛ فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع".
وختاما، ما سبق يكشف لنا عن عظم ومركزية دعائنا: "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا، وارزقني اجتنابه".