الإثنين 04 نوفمبر 2024
توقيت مصر 20:04 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

في الصحافة والحياة..

كلام في التجديد

لا يوجد عاقل متزن حصيف يرفض التجديد، لكنه لا يتم بالموهوبين الذين يتكلمون ويدلون برأيهم في كل شيء بدون علم أو تخصص. 
الموهوبون الذين أشار إليهم البيان الختامي لمؤتمر التجديد في الأزهر، يثيرون الضجيج في مسائل دقيقة وحساسة لا يجوز معالجتها بالخفة والإثارة الصحفية.
إثارة وخفة مع مسائل الدين وعلومه الدقيقة التي كلفت المتخصصين سنوات عمرهم وجعلتهم يسافرون إلى أقصى بقاع الأرض بحثا وتدقيقا وتمحيصا وتصحيحا. هل يجوز مثلا لمهندس انشائي التشكيك في الصلاة نفسها وفي أن الفاتحة والمعوذتين من القرآن الكريم، ويكتب عن ما يسميه جناية البخاري في جمع الأحاديث وجناية سيبويه في علم النحو، رغم أن ذلك الكاتب الذي حوله بعض الصحفيين إلى مفكر إسلامي كبير لا يستطيع إعراب جملة واحدة إعرابا صحيحا، فيداري عجزه بأنه عجز وضمور في اللغة العربية نفسها وجناية من سيبويه!
هو وغيره من الموهوبين يسبون البخاري وغيره ويشككون في قدراتهم ومجهودهم وما أفنوه من سنين عمرهم، وينسلون منهم إلى هدم التراث ثم الدين كله.
الباحثون والمستشرقون عبر تاريخ الإسلام تعاملوا بالتدقيق والبحث والتحري والتجديد في كل مرحلة، لكن بأدب وتوقير وترك الجدل فيما هو قديم وغير مفيد أو مناسب العصر الحديث، وليس بسبق إصرار وترصد للهدم.
حتى مع النصوص غير المقدسة كانوا يفعلون ذلك. لقد شككوا مثلا في رحلات ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري، ليس بنية التدمير وإنما لأن عقول الناس لم تستوعب ما نقله من شاذ وغريب عن أحوال مناطق بعيدة لم يكونوا بالغيها، لدرجة أن ابن خلدون في مقدمته وبعد أن شكك فيه، ذهب لمقابلة وزير سلطان المغرب أبي عنان المريني الذي كتبت رحلات ابن بطوطة في عهده المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" وطلب منه التوقف عنها وإنكارها لأن الناس لا تصدقها خصوصا ما نقله عن أحوال الهند وسلوكهم الاجتماعي في زمن سلطانها محمد شاه.
وفي رد جميل يطلب منه الوزير أن يتوقف هو عن هذا التشكيك حتى لا يكون مثل ابن الوزير المسجون الذي نشأ وتربى في السجن ولم ير من الحيوانات فيه سوى الفئران، وعندما سأل عن نوع اللحم الذي يأكله، أجابه أبوه بأنه لحم شاة، قال: يعني فأر!.. فكل الحيوانات عنده فئران بسبب عدم استيعابه لما هو خارج السجن.. 
كانت مآخذ ابن خلدون ومثله ابن الخطيب والبلفيقي الذي كذبا مشاهداته، أنه لا يمكن له تذكر 30 عاما قضاها في السفر قطع خلالها 175 ألف ميل، ثم يمليها من ذاكرته على الكاتب ابن جزي الكلبي في ثلاثة شهور فقط.
لكن تتبع المستشرقين لرحلاته والعدد الكبير من الأعلام الجغرافية والشخصية التي حكاها من الذاكرة، وحتى التواريخ من خلال مقاييس ضبطها والتقدم في وسائل المواصلات التي سهلت السفر ومعرفة الأماكن التي ارتادها، كشفت صدق الرجل ودقته الشديدة في أسماء المناطق والحكام والقضاة والمناسبات، فمثلا ظل بعض الباحثين يشككون في وصوله إلى الصين، إلا أنه مع الزمن والتطور في وسائل البحث والتحري تبين صدقه واستقر ذلك عند المستشرقين، ومنهم الباحث الياباني ياموتو الذي قال إنه من المستحيل القول بأن رواياته التي وجدت توكيدا في المصادر الصينية في أسفار ماركو بولو البندقي الرحال الايطالي الذي عاصر ابن بطوطة أو سبقه بقليل، كانت من تلفيق خياله. 
الخلاصة أن رحلات ابن بطوطة منتج بشري محض، لكن نقدها وتتبعها وإنكار مشاهداتها لم تسع لهدمه، وإنما بهدف قبولها عقليا وتصديقه في أماكن أخرى بعيدة وزمن مختلف. لم يتعرض للسباب ولا للحذف وإنما حصل في النهاية على شهادة اعتراف بصحة ما ورد في ذاكرته التي اعتمد عليها تماما بعد تعرضه للسطو أثناء مرحلة متأخرة من رحلاته فقد خلالها الورق الذي كان يسجل عليه ملاحظاته.
التجديد في حاجة إلى متخصصين متعمقين لديهم همة البحث الدءوب المحايد والموضوعي، وليس إعلاميين أو مهندسين أو تخصصات يقتصر مجهودها على الالتقاط  بالصدفة والهواية لملء الفراغ أو التسلية. 
التراث وصل إلينا بعد مجهود شاق وتفرغ كامل استغرق عمر الباحثين والعلماء القدامي وأحيط بشروط صارمة، في زمن كان فيه النقل الشفوي بقوة كمبيوتر هذا الزمان، وما استتبعه من ذاكرة حديدية تختلف عن ذاكرة الناس في عصرنا.
التجديد لا يأتي بتوجيهات من أهل السياسة ولا بتلفيقات من الإعلاميين الذي يجب عليهم عدم الخوض في هكذا مسائل، ما يترجم في صورة الاستخفاف السائد حاليا وهدم القديم برمته بمزاعم التحديث ومواكبة العصر وتجفيف منابع الإرهاب الفكرية.
في ظل التراث المفترى عليه وضع عالمنا الإسلامي قدما في الاندلس وأخرى في الصين كما ذكر شيخ الأزهر. ربطه بالإرهاب خطأ كبير، ففي عصوره التي نشأ فيها بلغ التقدم الحضاري أوج ازدهاره وانتشر السلام في الأرض ومعه الرفاهية والحب والتطور في جميع مناحي الحياة.