الإثنين 23 ديسمبر 2024
توقيت مصر 00:51 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

شجاعة وثبات وفيض وإشراق؟!..إنه الهدهد النبيل

يظل موقف الهدهد أمام النبي سليمان عليه السلام من مواقف الشجاعة والثبات والمسؤلية التى تنطق بما لايحصى من المعانى والاعتبار..ملك صاحب سلطان وأوتى من كل شيء ,, وفرد فى البلاد ولعله من فئة الضعاف يتبادلان السؤال والجواب.
سيكون هاما هنا أن ننتبه الى أن لغة الحوار المتبادلة سواء من النبي سليمان عليه السلام أومن الهدهد إلى حاله من التصعيد والحدة المتبادلة.. فإما أن الهدهد كان قد اعتبر المسألة منتهية بالنسبة له فحدث نفسه أن يموت شجاعا(وبعض الموت افضل من بعض!!)أو أنه كان شديد الثقة بحلم وعقل سيدنا سليمان خاصة حين يعرف سبب تأخره.
فى كل الأحوال يبقى الحوار بينهما نموذجا فريدا فى تقدير المسؤولية والشعور بالواجب من الطرفين.. سواء من جهة سيدنا سليمان الذى يتفقد بنفسه واقع البلاد فيكتشف أن هناك غياب لأحد من يتوجب حضورهم.. فينطلق بسيل من التهديدات المرعبة التى يتطلبها الموقف منه ,, أو من جهة الهدهد الذى التقطت عيناه  أثناء طيره فى سماء الله ,, وعلى الفور,, أن هناك خلل فى الحالة الإنسانية السوية- السجود لغير الله - فى مجتمع ما.

***
الحالة النفسية التي كان عليها الهدهد ساعة الحوار تثير الكثيرمن الدهشة والأكثر من الإعجاب.
فما أن تلقى تلك التهديدات حتى سارع بدوره إلى الرد,,لم يتلعثم ولم يتردد ولم يلتمس المعاذير ,, بل رد بلغه لا تخلو من نديه وتحد فيقول (أحط بما لم تحط به ..) لك أن تتخيل أن (ملك)له ملك لا نظير له لا من قبل ولا من بعد  يقف بين جنوده من الانس والجن ..مهددا متوعدا.. فيأتيه الرد بكل هذه الثبات وكل هذه القوه وكل هذه الشجاعة ,, ثم يتحالم ويتعاظم وينتبه إلى جوهر المسألة ,, ويعرض عن أسلوب الرد(أحط بما لم تحط به)..؟؟

المدهش أن أحدا من السامعين للحوار.. لم تستبد به جلجلات النفاق النفيق المنفوق والتملق الرخيص الأقرع فيصرخ فى الهدهد: كيف تردعلى الملك بهذه(الوقاحة) أيها الأيها ؟ ألا تعرف مقام(الملوك) يا أرعن يا سفيه ؟.
فيزيد من توريط  الهدد وإرباكه.. ويزيد من وعيد النبي سليمان فى انفعاله!! لم يحدث شيئا من ذلك كله,, الجميع كان منتبها الى أن هناك أمر جلل وخطير.. ذلك أن الهدهد أردف جملته بـ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين) والنبأ فى اللغة له أهميه عظيمة تختلف  وتفوق الخبر ,,واليقين هو العلم التام الذى ليس فيه شك.. وأخذ الهدهد يصف ما رأه بدقه وتفصيل واختصار وكأنه صور المشهد تصويرا ..

***
لكنك تقف عند الاشراق وفيض الايمان الذى تكاد تراه دمعا فى عين الهدهد (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ,,الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) ..إنه يستكمل حديثه لمن يسمعوه وعلى رأس مستمعيه النبى سليمان ..وكلهم يؤمنون ويعلمون ويوقنون بتلك الحقائق التى ذكرها الهدهد النبيل ,,لكنه لم يملك منع نفسه من ذكر هذا اليقين..وكلنا نسجد حين نسمع ما ذكره الهدهد النبيل.
الموقف به من الدلالات والعبر اكثر من الكثير..غير أن شجاعة الهدهد والتى هى الوجه الأخر لحاله انعدام(الخوف)عنده.. تبقى من أهم العلامات فيه.. ذلك أن الخوف شىء كريه مقيت ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله(لا يحقرن أحدكم نفسه.. قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه قال: يرى أن عليه مقالا ثم لا يقول فيه خشيه الناس)..والرسول يعلم هنا أن المؤمن حين ينطق بما ينبغى النطق به سيكون مدركا لأمر الله من معانى الحكمة والكلام الحسن والجدل الجميل.. وإلا فإنه يكون من الفئه التى حذرنا منها الرسول الكريم أن العابد الأحمق يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر .
ويروى أن حذيفه دخل على عمر رضى الله عنهما فوجده مهموما فسأله عن سبب همه فقال: أخاف أن أخطئ فلا ينبهني أحد ,, فقال حذيفة : والله لو رأيناك على خطا لصوبناك ,, ففرح عمر و حمد الله .. ومما أثر فى الدعاء (اللهم هب لى حقيقة الإيمان بك حتى لا أخاف ولا أرجو غيرك). إنه إيمان التصديق والعمل ..القوه الحيوية الهائلة التى تولد الإرادة فى النفوس لتتغلب على الخوف..
***
يروى لنا العلامة الدكتور محمد رجب البيومى فى كتابه الهام ( مواقف خالدة لعلماء الإسلام)
أن الخديوي إسماعيل(1863-1879) ضاق بوضع الجيش المصرى فى حرب الحبشة فأرسل فى طلب رئيس الوزراء شريف باشا ليحادثه وقال له: ماذا تفعل حين يضيق بك الأمر فقال شريف باشا :الجأ إلى صحيح البخاري يقرأه لى علماء أطهارا لأنفاس.. فيفرج الله عنى.
فاستدعى الخديوي الشيخ العروسى شيخ الأزهر وقتها وطلب منه أن يقرأ له العلماء الصالحون صحيح البخارى أمام القبلة فى الأزهر...وفعل الشيخ..
ولكن أوضاع الجيش المصرى لم تتحسن فذهب الخديوي ومعه شريف باشا إلي العلماء الذين قرءوا البخارى وقال لهم إما أن ما تقرؤون ليس صحيح البخارى ..أو أنكم لستم علماء.. فقام أحد العلماء من أخر الصف(الشيخ محمد توفيق البتشتى وقال له: هزمنا منك يا إسماعيل..! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لتأمرن بالمعروف و تنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لكم ).. فملأ الصمت المكان ووجم الجميع.. وانصرف الخديوي وشريف باشا بدون كلمة واحدة ..
بعدها بفترة طلب الخديوي مقابلة هذا الشيخ وقال له :أعد على الحديث الذى ذكرته يا أستاذ..فأعاد عليه الحديث فقال الخديوي: وما صنعنا حتى ينزل هذا البلاء؟ فأخذ الشيخ يعدد له فى جرأة وشجاعة أشكال الانحراف والفساد فقال له الخديوي: وما نصنع وقد خالطنا الأجانب وهذه مدنيتهم..
فقال له الشيخ: وما ذنب البخارى وما حيلة العلماء ..؟ فسكت الخديوي وصرف الشيخ وأرسل معه من يودعه إلى باب القصر.
***
كان طبيعيا أن يكون هذا المستوى في الحوار مستمرا بل وأقوى وأقوم ..لكن ذلك الخط قطعه الزعيم الخالد تقطيعا  فيحكى لنا الكاتب الكبير وجيه ابو ذكرى كتابه (الزهور تدفن في اليمن):  أنه في بداية حرب اليمن  1962 قرر  الزعيم الخالد إرسال ثلاث طائرات حربية وفرقة صاعقة وسرية من مائة جندي إلى اليمن، في مهمة ظنها سهلة حينذاك، ولكنه تفاجأ أن هناك من يعترض على هذا القرار، وهو رفيقه كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة، الذي اعتبر قراراً كهذا يشتت الجيش عن مهمته الأساسية، في حربه مع عدو إسرائيلي متأهب على الدوام، مذكراً بكم الخسائر التي تحملتها ميزانية الدولة من جراء مغامرة الوحدة مع سوريا التي انتهت بالانفصال المرير.. انتهت المناقشة بأن أسمع  الزعيم الخالد زميله  أسوأ كلام وطلب إنهاء الاجتماع (لأن كمال تعبان ولازم يستريح) وبدأ كمال الدين حسين  فور نتهاء الاجتماع استراحة طويلة، في ظل الإقامة الجبرية في الإسكندرية..) أنتهى كلام الاستاذ وجيه أبو ذكرى عرفنا بعدها أن الزعيم الخالد طرد ابن زميله من الكلية الحربية حيث كان طالبا فيها ,, وحين مات أبو زميله منعه من السير في جنازته .
كل أولئك جاؤوا وذهبوا ولعل أحدا لا يذكرهم أو يتذكرهم ..لكن الهدهد النبيل نذكره ونتذكر شجاعته وإشراقاته.