الأربعاء، 22-01-2020
02:58 ص
فراج إسماعيل
أوصي أبنائي دائما بأن أعظم شهادة تضمن لهم الرزق بإذن الله هي دعوة أمهم وعليهم الحرص على نيل هذه الشهادة العظيمة عن حق واستحقاق.
قلت في مقالي السابق إنني لم أسافر في مايو 2004 إلى دبي للعمل في موقع قناة العربية، وكان تحت التأسيس برئاسة واحد من أفضل الصحفيين الشرق الأوسطيين في الإعلام الجديد الدكتور عمار بكار، وقد اتخذت قرار عدم السفر قبل إقلاع الطائرة بساعات قليلة وعقب صلاة الفجر وواصلت نومي بعمق دون إحساس بالندم على تفويت فرصة ذهبية يتمناها أي صحفي، فالعربية قناة كبيرة، والعمل بجانب مجموعة من الصحفيين الموهوبين جائزة كبرى.
لاحقا اكتشفت أن السبب أمي. طبعا لم تطلب ذلك مني ولا تعلم عنه شيئا. إنه شعور داخلي بعد أن وافتها المنية. ذهبت إلى مكتب المجلة كالعادة عقب استيقاظي من النوم، وهناك تلقيت مكالمة من زميلي الإعلامي الشاب عوض الغنام لزيارتي لأمر ما. بعد ساعتين جاءني باقتراح، فقد حضرت اجتماعا لرجل أعمال هو السيد أحمد معروف وسيدة أعمال هي السيدة مها الوكيل ينويان إصدار جريدة أسبوعية ومعهما ترخيصها مسبقا، وكانت الرخص القبرصية هي المنتشرة أيامها، وذكر أنه طرح اسمي عليهما كرئيس للتحرير. بعدها تلقيت مكالمة من السيدة مها الوكيل وذهبت للاجتماع معها ومع رجل الأعمال، وتم الاتفاق وصدرت الصحيفة بإسم "الجريدة الأولى" واستمرت نحو سنة، وتقاضيت راتبا معقولا بمعايير تلك المرحلة.
انهمكت في تلك التجربة بالإضافة إلى عملي في مكتب مجلة المجلة. ثم جاءت تجربة موازية شاركت فيها وهي موقع "المصريون" الذي حقق انتشارا سريعا برئاسة الأخوين الأستاذين جمال ومحمود سلطان، وكان ما ينشره جديدا على المواقع الإلكترونية أيامها، فقد كانت معظمها وربما كلها تتغذى على الصحف الورقية، لكن "المصريون" اعتمد على نفسه في أخباره وتقاريره ومقالاته، وهذه نكهة جديدة جعلت معدل زياراته عاليا، وحولته إلى مصدر تستقي منه وسائل الإعلام الأخرى خارج مصر وتنسب إليه.
كان الأستاذ جمال سلطان يعلم حبي لكرة القدم وفي جلساتنا معا يستمع لملاحظاتي، ففوجئت يعرض أن أكتب عمودا رياضيا في الكرة. ترددت في البداية فلم يسبق لي ذلك، وأنا لست كاتبا رياضيا. وبعد أن قررت خوض تلك المغامرة اخترت لنفسي أسلوبا معينا. لن أحلل كعادة المحللين. لن أتكلم عن فنيات. سأكتب ما في نفسي بدون رقابة ذاتية وسأهاجم الإمبراطور بدون مهادنة وبأسلوب الصدمات. وكان الإمبراطور هو الأهلي. وبالفعل انتهجت هذا الأسلوب، ولم يمض الكثير من الوقت حتى تحقق تفاعل هائل مع المقال. ردود فعل غير مسبوقة من خلال التعليقات، ولم يكن المسئول عن نشرها يجد الوقت الكافي للسيل الذي يتدفق عليه. كلها هجوم وشتائم من الصعب تحملها.
ورغم ذلك نشأت علاقة صداقة وطيدة بيني وبين بعض الأهلاوية. وعندما كتبت مرة أنني سأتوقف عن كتابة المقال أرسلوا يطلبون أن استمر، وهناك من تفهم أن هذا أسلوب كتابة وتفاعل معه بدون غضب، ومنهم الأستاذ سيد الصعيدي، وشخصية أخرى محترمة كان عنيفا في البداية معي ثم فوجئت به يعلق: لا تتوقف عن كتابة المقال، أكتب ما تريد ولن نرد عليك إذا كانت ردودنا تتعبك. هذه الشخصية حزنت لها بشدة فيما بعد عندما وصلني خبر وفاته فجأة في جدة.
في 6 أغسطس 2004 جاءني صوت شقيقي الأصغر "فارس" من الصعيد حزينا مكدودا غلى غير العادة. كان هو الوحيد الذي بقي من أخوتي مع أمي، فقد عاش كل منهم في بيته المستقل مع أسرته ولكنهم لم ينقطعوا عنها. قال فارس إن الوالدة مريضة جدا ثم استغرق في البكاء.
حجزت فورا في القطار، لكن زحمة الشوارع عطلتني عن اللحاق به، فحجزت قطار اليوم التالي. وصلت في الصباح الباكر يوم 8 أغسطس. في البيت وجدتها في غرفتها نائمة. أيقظتها وقبلتها ولم تكن هناك أي مؤشرات بأنها ستموت بعد ساعتين أو ثلاث. طلبت أمي ممن في البيت أن يجهزوا لي الإفطار وقد كان. أفطرت وهي بجانبي. ثم ألححت عليها أن نذهب بها إلى مستشفى الأقصر الدولي. لم يكن المستشفى على ما يرام فقد لاحظت حالة غريبة من الفوضى وعدم الاهتمام بالمرضى. ذهبنا إلى المستشفى الأميري القديم. وهناك كتب الطبيب بعض الأدوية لإحضارها من خارج المستشفى. كانت لا تزال تتحدث وتستمع لنا بصورة طبيعية. ذهب شقيقاي المهندس فايز وفارس ليحضرا الأدوية وبقيت وزوجة فارس بجانبها. في هذه اللحظات نفذ أمر الله، وتحقق دعائي في حضن الحجر الأسود بأن تموت بين يدي أو أمامي ولا يأتيني خبر موتها وأنا في الغربة كما جاءني من قبل خبر موت والدي وأخي.
والغريب أن أول من عزاني هو الدكتور عمار بعد الوفاة بدقائق. فقد اتصل بي الزميل إبراهيم الهباني ليبلغني رسالة منه، فأخبرته أنني مشغول لأن والدتي توفيت الآن.
كتبت مقالا عن تلك اللحظة الصعبة في عمودي الذي كنت انشره في "الجريدة الأولى" وبعده فوجئت بقارئ يزورني من المنصورة متأثرا بشدة ومعزيا وباكيا خلال جلستنا معا في مكتبي.
في مايو من العام التالي وفي نفس توقيت السنة التي تراجعت فيها عن السفر إلى دبي جاءني عرض جديد من الدكتور عمار بكار للانضمام إلى موقع قناة العربية الذي كان قد حقق انتشارا كبيرا وشهرة واسعة خلال شهور قليلة من إطلاقه. وسافرت في اواخر مايو 2005 وعشت هناك أجمل تجاربي الصحفية مع صحافة جديدة ولون جديد غير الصحافة الورقية. بدأت هذه التجربة في مايو 2005 وانتهت في يناير 2013، وهي الأكثر تأثيرا في حياتي المهنية، تدرجت خلالها من محرر أول إلى مدير التحرير ثم نائبا لرئيس التحرير، أو ما يعادل في الواقع "رئيس تحرير تنفيذي" إذ أن الإعلامي السعودي داود الشريان الذي تولى رئاسة الموقع خلفا للدكتور عمار بكار الذي تفرغ للإعلام الجديد وتطويره في MBC ، أوكل لي كل شيء من الإشراف على التحرير إلى الشئون الإدارية، فقد كان مشغولا بمهمات أخرى كعضو في مجلس إدارة MBC وببرنامجه التليفزيوني "واجه الصحافة" وبرنامجه اليومي الإذاعي عبر إذاعة MBC FM وكلها وظائف كان تحتم عليه الإقامة بعيدا عنا في الرياض، وإن استمرت توجيهاته التليفونية وأثناء زياراته الدورية لنا في دبي، بالإضافة إلى تحمله المسئولية الأولى أمام الإدارة العليا.