الأحد، 03-11-2019
06:36 م
د/هشام الحمامى
يقولون أن أسوأ القول ما ناقض بعضه بعضا..هذا ما شعرت به عند مطالعة خبرالتحضير لمسلسل يتناول حياة البطريرك الراحل (البابا شنودة الثالث) البابا 117 للكنيسة المرقسية ..المسلسل من إنتاج الكنيسة وحصل على موافقة الرقابة وزارة الثقافة وسيعرض على القنوات الفضائية العامة ولن يقتصر عرضه على القنوات القبطية أو على الأقباط فقط.
غبطة البابا الراحل كانت قيادته للكنيسة والأقباط على العكس تماما مما يوحى به عنوان المسلسل انطلاقا وانفتاحا واندماجا وتكاملا داخل الوعاء المصرى والعروبى ..وهو مما يعانى منه الأقباط حتى الأن جراء سنوات الانغلاق والحصار الطويلة داخل أسوار الكنيسة ..
من أول ما نولد وحتى نعمل ونتزوج ,, وحتى الرحلات والصادقات الاجتماعية لابد أن تكون من خلال الكنيسة. .كنت اتعرض لنقد شديد لو طلعت رحلة مع الكلية ..أو صاحبت شلة من زملاء الدراسة )هكذا قال لى الزميل والصديق د/ مايكل ..ورغم حبه لغبطة البابا الراحل ألا انه يحمله مسؤولية انعزال الأقباط وتقوقعهم.
هذا الكلام حقيقى وكل المهتمين بالشأن العام يعرفوه .. فكيف نغالط الحقائق ونقول أنه كان (بابا العرب) ,, لو كانت الكنيسة أنتجت مسلسلا مثلا عن البابا كيرلس السادس(بابا المصريين) كما أطلق أنا عليه ,, لكانت بذلك قد قدمت فائدة كبيرة لمستقبل الوطن والجماعة الوطنية كلها بل ولكل العرب .. سأروى لكم أحد مواقفه التى لا تنسى .. وقت بناء الكاتدرائية المرقسية بشارع رمسيس_ فى الستينيات_ قرر أستاذ اللغة العربية والدين (الشيخ على قرنى) بمدرسة (مكارم الأخلاق الإسلامية )بالعباسية أن يخبر تلاميذه ببناء الكنيسة وأن(إخواننا المسيحيين يجمعون تبرعات لبنائها وان الكنيسة بيت من بيوت الله ويجب علينا المساهمة معهم)..وبدأ التلاميذ فى جمع التبرعات ولما اكتمل لهم مبلغا معقولا كون الشيخ على منهم مجموعة ورتب لهم لقاء مع البابا كيرلس السادس)..استقبلهم غبطة البابا بترحاب شديد وقال لهم (إن دينكم دين عظيم وأن أحد دلائل عظمته هو ما تفعلونه الأن) ويحكى راوى القصة أن البابا لاحظ ارتباكنا لعدم معرفتنا كيف نناديه,, فاقترح علينا أن نناديه(الشيخ كيرلس) فضحكنا جميعا ,, كان البابا كيرلس السادس نموذجا فذا للتسامح والمحبة والألفة والإيلاف والاندماج والحق ان هذا النموذج كان هو النموذج الأغلب والأعم لكل أباء الكنيسة القبطية .
***
البابا شنودة الثالث كان زعيما سياسيا أولا وثانيا وثالثا ثم يأتى بعض ذلك أي وصف أخر ,, وحبه للزعامة واضح وحبه للظهور الاعلامى المتكرر لم يكن يخفى على احد ,, والحقيقة ان الرجل كان موهوبا فى فن الحديث وهو احد (ملوك الكلام) وكما يعرف الجميع فهو شاعر مطبوع يقول الشعر ويرويه.
الرجل كان زعامة حقيقية وأتصور انه لو لم تتم مصادرة الحياة السياسية بعد حركة الضباط لكان للرجل شأن سياسى كبيرفى تاريخ مصر الحديث ..والتاريخ يروى لنا حكايات كثيرة عن رجال كانت (لا ترى مثل نفسها ولم ترى أحد مثلها )..وشقوا الطريق نحو الزعامة والمجد بعنفوان وقوة وما غابت عن أعينهم لحظة واحدة (ذاتيتهم العظمى) وان كان المجال الكبير لتحقق زعامتهم ومجدهم هو(الشأن العام) أيا ما كان نوعه سياسى أو دينى .. وفى كل الأحوال سيكون على البسطاء والعوام من (الناس العاديين) تسديد ثمنا كبيرا لذلك ..
ظروف كثيره ساعدت على نجاح غبطه البابا فى تحقيق كل ما سعى لتحقيقه تقريبا . فحاله التدين الاجتماعى التى انتشرت من بداية السبعينيات ( فتره جلوسه على الكرسى البابوى) ساعدته فى توصيل رسالته لجموع الأقباط من ان الكنيسة هى ملاذكم ومأمنكم من تيار التدين العالى فى المجتمع ,, وقد كان ,, فتحولت الكنيسة الى وطن داخل الوطن و دوله داخل الدولة وقاد عملية بناء تنظيمي هائلة داخل الكنيسة و جموع الأقباط ,,
فى هذه الفترة أيضا بدا الانفتاح الاقتصادي وذهبت اغلب التوكيلات التجارية الى أصحابها من باب الكنيسة وليس من السوق التنافسى العام ..وتكونت نتيجة لذلك نخب اجتماعيه وثروات جديده داخل المجتمع القبطى ,,ما كان لها ان تكون لولا هذه الخطوة وزادت أيضا الموارد المالية للكنيسة بطريقه لا مثيل لها فى تاريخ الكنيسة كله وهو ما ساعد غبطته على ان يٌحكم السيطرة على (المجلس الملى) أيضا الذى اصبح مع (الاكليروس) ظلان لشخص غبطه البابا عن يمينه وشماله,, وهو ما لم يحدث فى تنظيم شئون الكنيسة طوال تاريخها من قبل اذ اكتفت الكنيسة بدورها الروحى تاركه للمجلس الملى الشؤن الزمنية والمدنية للأقباط خاصة التعامل مع الدولة
***
فى هذه الفترة أيضا تضاعفت الهجرة الى أوروبا وأمريكا وقد سارع إخوتنا الأقباط الى ذلك ,,فعمل غبطته على إنشاء كنائس لهم فى أوطانهم الجديدة وتكون ما عرفناه من بعد (بأقباط المهجر) الذين استخدمهم غبطة البابا بمهارة فائقة وكان لهم دوركبير فى منح قوة إضافية لغبطتة فى مواجهة الدولة من جانب وفى مواجهة خصومة الداخليين فى الكنيسة من جانب أخر( د ميلاد حنا / الأب متى المسكين ..ألخ) ذلك أن البابا كما ذكرت كان شخصية تنظيمية من الطراز الأول.. فكانت كل الخيوط فى يديه عبر شبكة تنظيمية بالغة الإحكام والتحكم .
كان البابا الراحل حادا وعنيف وقاسيا مع أى مخالفة لأرائه وأوامره ,, وهى صفة قديمة وأصيلة فيه ,,يحدثنا الأستاذ كمال غبريال في كتاب (الأقباط والليبرالية) عن انتهاجه العنف الذى هو أبعد ما يكون عن رسالة السيد المسيح فيقول (البابا شنودة كان يتدخل برهبانة فى حياة القرى المحيطة بديره_ دير السريان_ وقت ان كان راهبا تحت اسم انطونيوس السريانى مستخدما العنف بطريقة مفرطة وعنصرية وكأنه قائد كتيبة مقاتلة وليس قائد نساك ماتوا عن العالم ,, مما حدا ببعض مؤرخى الرهبنة الأجانب لأن يأبوا إدراجه فى عداد أباء الرهبنة القديسين)..وكلنا نعرف الخصومة اللدودة العنيفة من جانبه تجاه الراهب _وقتها_ متى المسكين ,,
سيكون هاما ان نتذكر أن الأنبا الراحل متى المسكين( تنيح في 1/2006)هو فخر العروبة كلها وصاحب موسوعة (حياة الصلوات الأرثوذكسية)التى ترجمت الى لغات عديدة
***
ستحكى لنا الحكايات أن القس إبراهيم عبد السيد أحد اشد معارضى البابا شنودة طافت به أسرته بعد تنيحه على الكنائس التى رفضت الصلاة عليه خوفا ورعبا من البابا شنودة حتى لم تجد أسرته إلا الصلاة عليه فى كنيسة المدافن ..وقل مثل ذلك عن الأنبا اغاثون ..والأنبا فلوبتير ... أين ذلك من الأخلاقيات الرفيعة شديدة الزهد والتواضع والمحبة والتسامح التى كان يتمتع بها أباء الكنيسة القبطية.
لقد ترك غبطة البابا شنودة الثالث ميراثا كنسيا هائلا تتداخل فيه الدنيا بالدين على نحو مرعب.. حيث الأغوار المظلمة والصراعات العنيفة..وهو ما يذكرك بباباوات أوروبا فى القرون الوسطى وقد كانت حادثة قتل (نيافة الأنبا ابيفانيوس) العام الماضى دليلا خطيرا على ذلك ..وما كان مقتله انعكاس لحالة خلاف فكرى بين تيار وتيار رغم أن ذلك حقيقة ,, لكنه ليس كل الحقيقة وايضا ليست خطأ فرديا مصاحب للبشر وحياة البشر كيهوذا الذى كان والذى خان ,, لكن ذلك ليس كذلك,, فأى متابع للشأن القبطى كان يتوقع أن اليوم التالى لغياب البابا شنودة الثالث سيكون اليوم الذى ستدخل فيه كنيستنا الوطنية فى أزمة وصراع.. لأنه وككل الزعامات الكبيرة كانت الكنيسة القبطية هى البابا شنودة.. والبابا شنودة هو الكنيسة القبطية..
وهذا مما يجعل وصفه بــ(بابا العرب) وصفا لا يلائم شخصية ولا دور ولا تاريخ غبطته .