الإثنين 23 ديسمبر 2024
توقيت مصر 00:56 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

المجددينات

المجددينات : جمع غريب لا أصل له في لغة العرب ، فلا هو على صيغة جمع المذكر السالم ،ولا جمع المؤنث ،ولا جمع التكسير ،ومع ذلك فإنه ليس من ابتداعي، وإنما هو مصطلح تعود براءة اختراعه لواحد من كبار أدباء العربية في القرن الماضي ، هو الأستاذ كامل كيلاني رحمة الله عليه ،وهو الأديب الذي اشتهر بكتاباته المتميزة في مجال قصص الأطفال ،حتى عرف بأنه رائد أدب الأطفال في الأدب العربي الحديث .
ويرجع الفضل في تعريفنا بهذا المصطلح إلى العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله ،فهو الذي نقل تلك التسمية العجيبة ، في مقدمة تحقيقه لسنن الترمذي ( 1/ 72) ، وذلك في معرض دفاعه عن التراث الإسلامي ،وبيانه لصحة مناهج علماء الحديث ،وما وضعوه من القواعد المحكمة لنقد الرواة ، حيث أشار إلى أقوامٍ ابتليت بهم الأمة في هذا العصر فُتنوا بالغرب وأنظمته ،فراحوا يطعنون في ثوابت الدين تحت دعوى التجديد ،زاعمين أنهم أعلم بالدين من علمائه وحفظته وخلصائه ، ثم ذكر أن الأديب النابغة كامل كيلاني يسمى أمثال هؤلاء " المجددينات ". ثم قال الشيخ شاكر في هامش تلك الصفحة : ( هكذا والله سماهم هذا الاسم العجيب، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية، أجاب بجواب أعجب وأبدع: هذا جمع مخنث سالم ! فأقسم له سائله أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمن ).انتهى كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله . وأقول تتمةً له وبناءً عليه : لا شك أن تجديد الدين أمر مشروع ومأمور به ،وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في هذه الأمة في سياق المدح له والرضا به ؛حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة ‏ ‏رضي الله عنه : (‏ ‏إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) .[ أخرجه أبو داود ( 4291) ،والحاكم (4/522)،والطبراني في الأوسط (6523).وصححه الألباني في صحيح أبي داود ].
والتجديد في اللغة : مصدر من جدَّدَ الشيءَ إذا صيره جديداً . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ،فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ). [ أخرجه الحاكم(1/4) والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد للهيثمي ( 1/ 52) من حديث عبد الله بن عمرو ،وقال الهيثمي : إسناده حسن ،وصححه الألباني في الصحيحة (1585) ] . ومعنى أن الإيمان يَخْلَقُ كما يَخْلَقُ الثوب؛ أنه يضعُفُ ويدخله النّقصُ والفتور بسبب ما يقترفه العبد من المعاصي ، وما يعتريه من صنوف الفتن والصوارف التي تصرفه عن الحق أو بعضه ،فتذهب جِدَّةُ الإيمان وحسنُه وبهاؤه ، فأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوجه إلى الله عز وجل بسؤال أن يجدد الإيمان في قلوبنا ،فيعيده إلى سابق قوته وحسنه وبهائه .
وعلى هذا يصح تفسير التجديد في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن يجدد لها دينها ) ، بأن معناه مَن يعيد أمرها إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .ولذا قال المناوى في شرح هذا الحديث في كتابه فيض القدير ( 2/ 351) : ( أي يبين السُنة من البدعة ،ويكثر العلم وينصر أهله ،ويكسر أهل البدعة ويذلهم ).
ومن أجل ذلك فإني أرى أن شيخ الأزهر كان موفقاً غاية التوفيق حين استشهد - في معرض تدليله على أن التجديد مقولةٌ تراثيةٌ ،وليس مقولةً حداثيةً -بقول الإمام أحمد بن حنبل : ( لا تقلدني ،ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ،ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا ). وذلك أنَّ في الاستشهاد بهذه المقولة بياناً لحقيقة التجديد في الإسلام ،وأنه يَعني أولَّ ما يعني العودة إلى الأصول الصافية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
كما أن كلمة الإمام أحمد تحمل معنى آخر مهماً من معاني التجديد ،ألا وهو محاربة الجمود الفقهي ،والدعوة إلى الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية ، وتخريج أحكام المستجدّات والنوازل على كليات القواعد الفقهية، والمبادئ الأصولية ،وأنه لا بأس من إعادة النظر في أقوال مَن سبق من الفقهاء ،إذا كانت تلك الأقوال غيرَ مبنية على نصوص صريحة من القرآن والسنة  ، كأن تكون قد بُنيت على عرف قد تغير ،أو علة قد زالت ، ونحو ذلك .
وهو ما عبر عنه ابن القيم في إعلام الموقعين(3/3) بتغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد،وكتب في ذلك فصلاً ذكر أنه عظيم النفع ( وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ؛فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ،وهي عدل كلها ،ومصالح كلها ،وحكمة كلها ،فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ،وعن الرحمة إلى ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة ،وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة ،وإن أدخلت فيها بالتأويل ). ومثله قول القرافي في الفروق ( 1/322) : (.. فمهما تجدد في العرف اعتبره ،ومهما سقط أسقطه ،ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك ،بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك ،واسأله عن عرف بلده ،وأجْرِه عليه ،وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك ،فهذا هو الحق الواضح.  والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين ،وجهل بمقاصد علماء المسلمين ،والسلف الماضين) .
وفي هذا الذي نقلناه عن ابن القيم والقرافي ومن قَبلِهما الإمام أحمد - ومثله عن علمائنا كثير - ما يدل على صحة القول بأن التجديد مقولة تراثية ، وأن تراثنا العظيم يحمل في طياته بذور تجديده .
لكن الإشكالية تبقى دائماً في تحديد شروط هذا التجديد وضوابطه ، وأولها أن نُفرِّقَ بين الثوابت التي لا يمكن التغيير فيها ، والمتغيرات التي تتسم بالمرونة ،والتي كان من رحمة الله تعالى بالأمة أن ترك المجال فيها مفتوحاً للاجتهاد المنضبط بقواعد الشرع الحنيف .
ولا يمكن أن تترك مهمة تحديد ذلك لكل من هبَّ ودبَّ ،ممن لا يعرف شيئاً من كتاب الله ولا سنة رسوله ،بل لا بد أن يوسد ذلك الأمر إلى أهله من العلماء المؤهلين علمياً للقيام بذلك. وإن ما يذكره البعض من أنه ليس في الإسلام كهنوت ولا رجال دين ،هو قولٌ حقٌ وكلامٌ صحيحٌ ،ولكنه من قبيل الحق الذي يراد به الباطل ،فإنه إذا كان الإسلام لا يعرف رجال الدين بالمفهوم الكنسي الكهنوتي ،فإنه بكل تأكيد يعرف علماء الدين الذين يستنبطون الأحكام من مصادرها الشرعية ،والذين يرجع إليهم عامة الناس في معرفة ما أشكل عليهم من أمور دينهم ؛كما قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ). [  النحل : 43]  .وإذا كان التخصص محترماً في كل علم وفن ،فلماذا يكون الحديث في الإسلام كلأً مباحاً لكل أحد ، بدعوى أن الإسلام ليس فيه رجال دين ؟
وإن القول بغير هذا سيفتح المجال واسعاً أمام أولئك " المجددينات " ليعبثوا بالدين وأحكامه ، ويخرجوا علينا بين الفينة والأخرى بأقوال شاذة وآراء باطلة . وسيجدون في أجهزة الإعلام المغرضة مَن يفتح لهم الأبواب ليبثوا من خلالها سمومهم وأباطيلهم ، وذلك من عَيِّنةِ مَن يُصر على المناداة بعدم إيقاع الطلاق الشفوي ، أو من يزعم أن طلاق المصريين لا يقع لأنهم ينطقون القاف همزة فيقولون ( الطلاء ) ، أو من ينادي بتغيير أحكام المواريث أسوةً بما حدث في تونس ،أو كحال ذلك المسكين الذي طالب شيخ الأزهر بالاعتذار عن الفتوحات الإسلامية ،ونحو ذلك من الأقوال الباطلة التي لا سند لها من صحيح المنقول ولا صريح المعقول.
وأعجب من ذلك أنك ترى بعض مَن ينادون بهذا (التبديد ) يمجدون الأزهر ويرفعون من شأنه إذا وافقهم في بعض ما ينادون به ، فإذا خالفهم في شيء اتهموه بالتعصب والتخلف وأنه يقف حجر عثرة في طريق تجديدهم المزعوم ، وذلك مثلما حدث حين أعدَّ الأزهر مؤخراً مشروعاً لقوانين الأسرة ، فأتتْ بعضُ مواده على غير ما يَهوى أولئك المبددون ،فراحوا يهاجمون الأزهر زاعمين أنه ليس من حقه إعداد القوانين ،لأنه ليس جهة تشريع . مع أن المعروفَ أن قوانين الأسرة تكاد تكون هي المجال الوحيد الذي لا يزال مصدره هو أحكام الشريعة ، فكيف يُستكثر على الأزهر -وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية ،بحسب نص المادة السابعة من الدستور -كيف يستكثر عليه أن يساهم بوضع مقترح لقانون يُفترض أن مرجعيته الأولى والأخيرة هي أحكام الشريعة الإسلامية ؟

** عضو رابطة علماء المسلمين