الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 23:56 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الماوردى والخليفة من قريش

أبو الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى، ولد فى البصرة عام 364 هـ، لأب يعمل ببيع ماء الورد فنسب إليه فقيل "الماوردى". ارتحل به أبوه إلى بغداد، وبها سمع الحديث، ثم لازم واستمع إلى أبى حامد الإسفرايينى فأخذ عنه الفقه.
كان مفكرًا إسلامياً، شاعراً وأديباً، من وجوه فقهاء الشافعية، إماماً وقاضياً امتازت أحكامه بالمرونة والاجتهاد، ولتبحره فى الفقه لقب بـ(أقضى القضاة)، فضلاً عن كونه من رجال السياسة البارزين، كان ذا علاقات وطيدة مع رجال الدولة العباسية، كما كان سفيرا للعباسيين ووسيطهم لدى بنى بويه والسلاجقة؛ لعلاقاته الجيدة بهم لدرجة أن البويهيين استعانوا به كسفيرًا لهم!.
قال محمد أبوزهرة عن الماوردى: "اتصف أبو الحسن بصفات جعلته فى الذروة بين رجال العلم ، فقد كان صاحب ذاكرة واعية، وبديهة حاضرة، وعقل مستقيم، الثانية الحزامة فى القول والعمل، والثالثة الحلم وضبط النفس، والرابعة التواضع وإبعاد النفس عن الغرور، وكان حييًا شديد الحياء وفيه وقار وهيبة، والخامسة الإخلاص".
للماوردى مؤلفات قيمة  قال عنها ياقوت الحموى فى كتابه إرشاد الأريب: "له تصانيف حسان فى كل فن"، وله مؤلفات عديدة فى حقول علمية متنوعة، لم يبق لنا للأسف منها إلا القليل، فـمنها على سبيل المثال لا الحصر: تفسير القرآن المسمى"النكت والعيون"، سياسية أعلام النبوة، أدب الدنيا والدين، قانون الوزارة، وغيرها الكثير ويعد الأحكام السلطانية والولايات الدينية هو أول كتاب من نوعه تناول جوانب الحُكم فى الدولة، وقسمه أقسامًا ابتدأها بالإمامة (الخلافة)، فيرى أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة فى حراسة الدين وسياسة الدنيا، أيضاً إقامتها واجبة، ووضع شروطًا للخليفة وهى كما ذكر على ترتيبه:
أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ عَلَى شُرُوطِهَا الْجَامِعَةِ.
وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الْمُؤَدِّى إلَى الِاجْتِهَادِ فِى النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ.
وَالثَّالِثُ: سَلَامَةُ الْحَوَاسِّ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ؛ لِيَصِحَّ مَعَهَا مُبَاشَرَةُ مَا يُدْرَكُ بِهَا.
وَالرَّابِعُ: سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَقْصٍ يَمْنَعُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَرَكَةِ وَسُرْعَةِ النُّهُوضِ.
وَالْخَامِسُ: الرَّأْى الْمُفْضِى إلَى سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَتَدْبِيرِ الْمَصَالِح.
وَالسَّادِسُ: الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إلَى حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوّ.
وَالسَّابِعُ: النَّسَبُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ.
لا يختلف عاقل على الستة شروط الأولى، ولكن الاختلاف على السابع وهو النسب القريشى، والأحاديث أغلبها فى هذا الصدد مُتكلم فيها، وأنظر إلى قول عمر يوم السقيفة: "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحى من قريش" فهل الآن الناس لا تدين إلا لقريش؟ أو كما فى الحديث عند  البخارى وعند مسلم بألفاظ متقاربة "إن الناس تبع لقريش، وإن الأئمة منها" إذ المقصود هنا ليس التبرك بالنسب النبوى قطعاً، فهذا ليس من مقاصد الخلافة، وإلا لكان أهل البيت أقرب نسباً وأوصل رحمًا!.
إنما هنا المقصد هو قوة النفوذ وهيبة السلطان لتحقيق المصلحة للأمة ودفع الشر عنها، فإذا كان هذا تحقق فى القرن الأول، فلم يتحقق فيما أتى بعده من الأيام صعودًا وهبوطًا، قوة وضعفًا حتى كاد يتآكل، وهذا ما ذكره بن خلدون فى مقدمته بقوله: "ومن القائلين بنفى اشتراط القرشية أبو بكر الباقلانى لما أدرك ما عليه من عصبية قريش من التلاشى والاضمحلال".
ثانيا: يصعب فى أيامنا تلك التى نعيشها أن نثبت النسب القريشى أو ننفيه بعدما كثر الأدعياء، وسهل الانتحال، فيكفى أن البغدادى (زعيم تنظيم الدولة) قد نسب نفسه لقريش.
ثالثاً: عاصر الماوردى الخلافة العباسية وهى فى أضعف  حالتها، والخلافة فى مهب الريح، يجتذبها البويهيون من جانب، ويعدو عليها السلاجقة من جانب آخر، ويتربص بها الفاطميون وأصبح الخليفة لا سلطان له، وقد وصل به الضعف مبلغه حتى إن البساسيرى أحد قادة العباسيين استماله المستنصر بالله الفاطمى، ومده بالأموال والذخائر؛ فثار على الخليفة العباسى وحبسه واستولى على بغداد، وأقام الخطبة فى مساجدها للمستنصر(الفاطمي) لمدة عام فى عاصمة الخلافة السنية، ومن العجب العجاب ما أعاد الخليفة العباسى إلى دار الخلافة مرة أخرى إلا استنجاده بالسلطان طغرلبك السلجوقى فدخل فى معركة على طريق الكوفة قتل فيها البساسيرى.
  فأراد الماوردى أن يجعل من الإمامة لازمة للنسب القريشى، وهنا قد يرى  صاحب تلك السطور حيلة سياسية بغطاء فقهى؛ أراد بها  أن يكف أيدى الطامعين فى اقتناص المنصب، ويسقط الشرعية عن هؤلاء المصارعين للخليفة العباسى على الخلافة.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا كل هذا التحامل على الرجل؟.
 فأُجيبك بمثاليين لا ثالث لهما.
 أولهما: رواية  أبا ذر قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملنى؟ فضرب بيده على منكبى ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذى عليه فيها. رواه مسلم.
لاحظ عدم الاستجابة هنا بالرغم من  نسبه القريشى، لأنه ليس كفؤًا لها، وهذا ما حذر منه المصطفى(صلى الله عليه وسلم) بقوله فيما رواه البخارى: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
ثانيهما: قول عمر بن الخطاب عند موته: لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيًا ما جعلتها شورى، أو لوليته، أو لما دخلتنى فيه الظنة، أو لقدمته للصلاة" على اختلاف الروايات، فهذا قطع من عمر بن الخطاب أنه لو كان سالم حيًا لأوصى له بالخلافة، وهو من أصل فارسى، فلو كان النسب القريشى شرطًا للخلافة، فهل كان عمر بن الخطاب - وهو من هو- يولى على المسلمين من لا تتوفر فيه الشروط، ولم ينكر عليه أحد من كبار الصحابة الذين من حوله!.