الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 13:04 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

"الماوردى" وآلية اختيار الخليفة

ما لفتنى بشدة إلى  محمد بن على الماوردى (365 – 450هـ)،هو ما ذكره دكتور طه حسين، حين نبه إلى إكثار ابن خلدون من الاعتماد على نصوص الماوردى فى مباحث الخلافة والوزارة، ثم جاء من بعده وائل حلاق فى كتابه الدولة المستحيلة، حين قارن بين الدولة الغربية الحديثة والدولة الإسلامية، مستشهداً بالمبادئ الدستورية والاحكام السياسية التى وضعها الماوردى للحكم الإسلامى آنذاك، ثم الاهتمام الشديد والعناية البالغة من قِبل المستشرقين الغربيين بكتابه الأهم: (الأحكام السلطانية والولايات الدينية)؛ فقد طُبع بعناية المستشرق الألمانى إنجر، مترجماً إلى الألمانية. وطُبع مترجماً إلى الفرنسية فى الجزائر (1915م) بعناية المستشرق الفرنسى (أفاجتان) وطُبع مترجماً إلى الإنجليزية فى لندن (1947م) بعناية (هوتنج) وله غير ذلك من الترجمات إلى اللغات الأوروبية.
فكتاب الأحكام السلطانية للماوردى، يعتبر النص التأسيسى للقانون الدستورى الإسلامى، ففيه دراسات سياسية متنوعة وأبحاث قانونية مستفيضة، يقع فى عشرين باباً، تنصب الأربعة أبواب الأولى على الفقه الدستورى، تليها ثلاثة على القانون الإدارى، وثلاثة على القانون الدولى العام والخاص، وستة على المالية العامة، ثم أتبعها بأبواب عن فقه الفرائض من زكاة وحج وصلاة، وإقامة الحدود  على مرتكبى الجرائم من قتل وسرقة.. إلخ؛ معولاً فى كل ذلك على ما أخذ به فقاء المسلمين السابقين عليه، وكذلك التجربة العملية التى اكتسبها من خلال عمله فى القضاء فقد لقب بـ(أقضى القضاة)، فضلاً عن كونه من رجال السياسة البارزين، كان ذا علاقات وطيدة مع رجال الدولة العباسية، كما كان سفيرًا للعباسيين ووسيطهم لدى بنى بويه والسلاجقة.
 تكلم عن الإمامة الخلافة( الإمامة) - كما يروق له أن يطلق عليها- فى باب الكتاب الأول، وأشار إلى وجوبها ووضع شروطاً للإمام وقد أوليناها عناية وناقشناها باستفاضة فى مقال نُشر على صفحات جريدة "المصريون" الغراء تحت عنوان "الماوردى والخليفة من قريش"، ثم ها نحن هنا؛ نكمل ما بدأناه، فـ نستعرض جواب الماوردى عن السؤال الأهم: ما هى طرق تولية الخليفة؟.
 رأى صاحبنا إن الإمامة تنعقد بطريقتين لا ثالث لهما:
الطريقة الأولى: بيعة أهل الحل والعقد: وهو مصطلح إسلامى درج استعماله للدلالة على أهل الاجتهاد، على حسب علماء الأصول، وحسب الإمام النووى أنهم العلماء والرؤساء، ووجوه الناس: الذين يرجع الناس إليهم فى حاجاتهم ومصالحهم. وعرفهم أبو المعالى الجوينى، إمام الحرمين بقوله: "وهم الأفاضل المستقلون، الذين حنكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعيّة فيمن يناط به أمر الرعية". 
ويقصد بالعقد: عقد نظام جماعة المسلمين فى شئونهم العامة، السياسية، الإدارية، التشريعية والقضائية ونحوها.
أما  الحل: حل وتفكيك هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد.
ووضع الماوردى شروطاً يجب أن تتوفر فيهم:
-الْعَدَالَةُ عَلَى شُرُوطِهَا الْجَامِعَةِ.
-العلم الذى يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فى الإمام .
-الفطنة والذكاء لئلا تشتبه عليهم الأمور فتلتبس.
-الرأى والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف .
الملاحظ هنا، أنه وضع الشروط وحددها دون أن يضع كيفية اختيار هؤلاء، فلما فُقدت الآلية؛ آلت تلقائيًا إلى الخليفة، فكان القريبون منه من علماء ووجهاء وقادة صنعهم السلطان على عينه، واختارهم وفقًا لهواه، هم أهل الحل والعقد؛ فهل تتوقع من هؤلاء أن يعزلوا الخليفة إن انتفى فيه شرط من الشروط أو إذا  حاد عن الجادّة؟!.
ثم الطريقة الثانية: وفيها تنعقد الإمامة  بعهد من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق. ويذكر سابقتين أقرهما المسلمون: 
أولهما:إن أبوبكر الصديق قد عهد بالإمامة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فأثبت المسلمون إمامته بإقرارهم ذلك العهد. ثانيهما:إن عمراً عهد بالإمامة إلى أهل الشورى فقبل بذلك المسلون أيضًا.
ولا حظ أن الطريقتين قد أغفلتا رأى الشعب أو عامة الأمة فيمن يتولى أمرهم، لا أدرى إذا كان تعمد ذلك؛ كونه يرى فيهم أنهم لا يملكون هذا الحق وبالأحرى غير مؤهلين له.
 أما أنه لعدم إمكانية التنفيذ على أرض الواقع؛ لـصعوبة الوصول إلى كل  أفراد أمة تمتد  على مساحة جغرافية من حدود الصين فى آسيا إلى غرب آسيا وشمال إفريقيا وصولاً إلى الأندلس، فى ظل وسائل موصلات بدائية ( ناقة أو فرس) فى ذلك العصر.
 فى حين ذهب صاحب كتاب الحقيقة الغائبة، إلى رؤية أخرى حين قال: "بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبوبكر الصديق نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بن الخطاب بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو مرة أخرى ما خالفه عمر فى قصر الاختيار بين الستة المعروفين وهم : علىّ بن أبى طالب، وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بن أبى سفيان بحد السيف، ويزيد ابنه بالوراثة.  ويستطرد ليصل إلى القاعدة التى يريد أن يرسيها  قائلاً: أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض البعض تجاوزها، ويختلفون فى تفضيل أحدها على الآخر ويرى البعض الآخر إن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة".
فإذا رأى أصحاب الرأى الأخير أنه "لا قاعدة"، والبعض الآخر فضّلَ أن يحوم حول الأشكال الستة؛ إذن فالأمر برمته لا يعدو سوى اجتهاد؛ ولم ينكر العلماء إمكانية تغيير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان.
وحتى ابن قيم الجوزية، رأى أنها تتغير لخمسة أشياء: الزمان والمكان، العادات والاحوال، والنيات.
فلماذا ذلك الإصرار العجيب على أن  نظل نراوح مكاننا جيلاً خلف جيل؟!.